مقال رائع عن الأوضاع في الأرض المحتلة للمتابعي الأحداث 2024.

عن صحيفة القدس العربي الصادرة في لندن
**حسن ابراهيم

ما ان يتزايد القمع في الاراضي المحتلة ويضطر الشعب الفلسطيني او قيادته الي تهدئة الاوضاع مؤقتا، حتي يتصايح المزايدون في العالم العربي، يلومون الرئيس عرفات والسلطة الوطنية علي الخيانة والتفريط في دم الشهداء. ورغم ان كاميرات التلفزيون تنقل معاناة الشعب الفلسطيني كل يوم وكل ساعة، ويري العرب كيف ان سقف المطالب الفلسطينية يتقلص يوميا، والمفاوضون الفلسطينيون تراق مياه وجوههم يومـــيا، رغم كل ذلك لا يأبه العرب كثيرا بما يصيب الشعب الفلسطيني.
والموقف العربي اشد وطأة من الموقف الاسرائيلي. فاسرائيل عدو واضح قام علي اساس الطغيان. وقد ضاقت اسرائيل الحكومة، ومن ورائها ما يفوق الثمانين في المئة من شعبها، ضاقت ذرعا بكل ما يمثله الفلسطيني. فدمرت محطة الاذاعة والتلفزيون واغتالت القياديين الفلسطينيين، وترفض كل مبادرة مذلة تضطر القيادة الفلسطينية لتقديمها. فهي تعلم ان الرادع الوحيد هو الصمود الفلسطيني، لذا فهي تعمل فيه تقطيعا وتقتيلا وتجويعا وتشريدا وانتهاكا.
يشاهد العرب كل هذا يوميا علي شاشات تلفزيونات الشرق والغرب. ويعلمون حاجة الشعب الفلسطيني الي دعم ولو معنوي، ولو كان تهديدا فارغا من رئيس دولة عربي ن** علي طراز نسخة السبعينات والثمانينات من معمر القذافي، قبل عودة الوعي الامريكي الي وجدانه. لكنهم لا يفلحون الا في المزايدة علي دماء الشعب الفلسطيني، والبكاء علي المقدسات العربية والاسلامية التي اصبحت شعارا يلوكونه كلما اجتمعوا للسمر حول موائد السياسة الخضراء. وحتي اكذوبة المليار دولار التي تعهدت الدول العربية دفعها الي الشعب الفلسطيني لتعينه علي الوقوف علي قدميه تبددت مع اول مطالبة فلسطينية.
فبقدرة قادر تحولت المنحة الي قرض حسن، ثم الي قرض بفوائد ولا يعلم الا الله ما الذي ستنحدر اليه الوعود العربية.
باسم القضية الفلسطينية سفكت دماء الفلسطينيين في اكثر من بلد عربي. وباسم الشعب الفلسطيني طالت يد التنكيل جماهير الشعوب العربية علي يد حكامها الاشاوس. جنرالات الموائد وحلقات السمر والليالي الحمراء، وسياسيون ما زالت احذيتهم تلمع لم تغبر في معركة، بينما تختلط دماء الشعوب بالمال الحرام في اياديهم المتسخة. وكتاب عاصروا النكبة عام ثمانية واربعين، والن**ة عام سبعة وستين واستمروا في حالة هتاف مستمر حتي بحت حناجرهم. لكنهم ما زالوا حتي وهم يتحشرجون يمارسون هواية المزايدة علي الشعب الفلسطيني، والنفاق غير الأنيق لقادتهـــــم وزعمائهم.
قد يختلف فلسطينيون كثر علي اسلوب قيادة عرفات، بل وقد يرمونه بشتي التهم. لكن الامر يتوقف عند هذا الحد. اما ان يسمح البعض لانفسهم بالانتقاد والتخوين والادانة من علي أرائكهم فهذا تزييف وخداع وتملق للذات.
ان الذين يلقون الحجارة فلسطينيون، والذين يقومون بالعمليات الاستشهادية فلسطينيون، والذين يعانون من تجريف المنازل والحواجز الماراثونية فلسطينيون. لم تطلق رصاصة من اي حدود عربية علي اسرائيل. ولم تخرج انتفاضة عربية في شوارع المدن العربية تضامنا مع الشعب الفلسطيني وضغطا علي الحكومات العربية. فمن له حق توزيع صكوك الغفران وأنواط الشجاعة علي هذا الفصيل او ذاك؟ لا احد خارج فلسطين. فالقضية الفلسطينية اضحت شأنا فلسطينيا خالصا. وكاذب من يقول غير هذا.
المقاتلون الفلسطينيون بلا سند عربي ولو حاول احدهم عبور اي حدود دولة من التي تسمي دول المواجهة لكي يرمي حجرا واحدا عبر الحدود لاعتقل ونكل به. اما المفاوضون فهم يجدون صدقا ودعما اكبر في برو**يل من اي عاصمة عربية اخري. وحتي حملات التبرع التلفزيونية التي اغدق عليها بعض العرب من اموالهم تحولت الي حفلة سرقة كبري وبوقاحة منقطعة النظير. فمن له الحق اذن بتخوين السلطة الوطنية الفلسطينية او اتهامها بالفساد؟ انه حق فلسطيني خالص.
لو شاء الشعب الفلسطيني ان يعصف بقيادته الحالية فهذا حقه المشروع، ولا يحق لاي منا بالتبرع بالنصائح او المزايدة علي هذه الشخصية او تلك. وهواة تصنيف الفلسطينيين هم انفسهم من يتبرعون بتصنيف العالم بأجمعه لكنهم يتوقفون عند حكوماتهم. فهي رشيدة عند معظمهم، ومن واتته الشجاعة يمتدح الحاكم الفرد، ثم يلقي باللوم علي بطانة السوء. لكن لان عرفات وسلطته مطوقان اسرائيليا، ولا فرق اغتيالات تؤدب المتطاولين ، وتفجر خطوط الانابيب، وتهدد بخطف ***اء وكريمات المسؤولين من علب الليل في عواصم الشرق والغرب كما كان يحدث في الماضي، لذ فقد اصبحوا ملكا مشاعا لكل من امسك القلم واراد ان يجرب قاموسه من الشتائم المقذعة.
قال سياسي عربي من احدي الدول المعتدلة: أتي زمان تأديب الفلسطينيين، وسيعلم الفلسطينيون ان اقصي ما يمكن تقديمه لهم هو اعانات انسانية وبعض الدعم بخصوص تسوية نهائية تضمن للمسلمين منهم حق الصلاة في المسجد الاقصي. لكن لن تكون لهم حدود مع اي دولة عربية، ولن يعودوا مرة اخري الي المشاغبة والتهديد . لحظات الصدق هذه نادرة، لكن عندما تلعب الكؤوس مفعولها في ادمغة ساستنا المعتدلين فهم يفصحون عن نواياهم بعض المرات. وهذه الكلمات القاسية توضح اقصي حدود الممكن في الشأن الفلسطيني بالنسبة للعالم العربي. اما ان يكون امن الشعب الفلسطيني ونضاله ومشروعه التحرري جزءا من الامن القومي العربي، فهذه هرطقة و ردة الي الماضي الناصري السحيق. فحتي زعيم الراديكاليين في وقت مضي صرح في اجتماع قمة عربية تشير الي ان المكابدة الفلسطينية والعربية والشرق اوسطية لن تنتهي الا بأسلوب تفكير جديد طموح وثاب.
فلننفض أيدينا من محاولات استجداء عطف الانظمة العربية والغربية علي الشعب الفلسطيني او العراقي او السوداني او غيرها من الشعوب، التي وصلت معاناتها حدا لا يمكن التعايش معه. ولنبدأ بتعليم انفسنا فضيلة الرفض الكامل ولو كان غير عقلاني لما يأتينا علي أطباق جاهزة. فليست هناك حلول سهلة، وليست هناك طرق مختصرة للوصول الي التحرير والانعتاق من ربقة التخلف والجهل والفقر والمرض.
الشعب الفلسطيني حزم امره، واعلن تمزيق كل الوعود المعسولة عربية كانت أم غربية. وها هي وفاء ادريس تفتح الطريق امام الشعب الفلسطيني. فأن تفجر امرأة عربية نفسها امر لم يكن يتخيله الاسرائيليون ولا حتي الفلسطينيون. وبالطبع سيجأر اصحاب الفتاوي السلطانية بالآراء المتخاذلة، وانه كان من الافضل لتلك الشهيدة ان تنجب رجالا وتربيهم. لكنها ـ اي الشهيدة ـ أبت الا ان تبصق بقرف علي كل هذه المنظومة الاسنة، وان تفتح بأشلائها احتمالات جديدة. لم تنتظر دولارات العرب ولا رضي ولي الامر، ولم تسمع ربما بفتاوي مشايخ الحيض والنفاس والمصارف الاسلامية.
من اراد للشعب الفلسطيني خيرا هذه الايام فليقل خيرا، أو ليصمت. فهو أشرف من هذا النفاق العام والمزايدات الرخيصة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.