قصة الكتيبة الفرنسية في الحرم الشريف 2024.

بعد أن انتهت أزمة الحرم المكي في سنة 1400 هجرية بدأت بعض الشائعات تتسرب عن الوسائل التي استطاع بها النظام قمع العملية، وكانت إحدى هذه الشائعات التي اعتبرت في وقتها من تأليف أهل الخيال الاستعانة بالكوماندوز الفرنسيين وقد استبعد معظم الذين سمعوا بهذه الإشاعة صحتها لغرابتها ولعدم تطرق أحد من المسؤولين إليها. والآن وبعد عقد ونيف من الزمن تظهر الحقيقة، لقد تكلم الفرنسيون أنفسهم وأعطوا الرواية كاملة من ألفها إلى يائها. هذا المقال ترجمة حرفية لفصل من كتاب منع نشره وطلب من الناشر نزعه من الكتاب الذي طبع في فرنسا وفعلاً نشر الكتاب دون هذا الفصل. في خضم أزمة احتلال الحرم المكي من قبل مجموعة جهيمان، ورغم اعتماد المملكة تقليدياً على الخبرات والمساعدات الأمريكية في المجال العسكري والأمني، أصدر فهد بن عبد العزيز أمراً بالتوجه إلى الحكومة الفرنسية لطلب المساعدة منها لفك الحصار عن الحرم في عملية فريدة من نوعها شكلت صفعة مؤلمة ترنح لها عرش آل سعود لعدة آيام. ويقال إن سبب لجوء السعوديين إلى فرنسا هو إعجاب أحد أفراد العائلة المالكة خلال زيارة قام بها مؤ***ً لفرنسا بأداء وتدريبات قوات مكافحة الإرهاب الفرنسية، مما حدا بذلك الأمير لأن يشير على فهد بطلب مساعدة الفرنسيين بعد أن فشل المستشارون الأمريكان في تقديم خطة شافية لاستيعاب المأ** الذي كان قد تسبب خلال الأيام الأولى في مقتل أكثر من 1500 من أفراد الحرس الوطني. بدأت روائح الجثث المتعفنة تتصاعد وأوشكت المعركة تتحول إلى ما يشبه الحرب الأهلية، وكادت معنويات القوات السعودية تنهار بشكل تام لما أبداه المدافعون من داخل الحرم من مقاومة وبلاء منقطع النظير. وكان أكثر ما يخشاه السعوديون أن تؤدي النداءات المنبعثة من مآذن الحرم والتي كانت تحث الجنود على الانضمام إلى الجماعة الثائرة بحجة فساد وفسق آل سعود إلى شق صف القوات المهاجمة وإحداث بلبلة لا قبل للسعوديين بالتعامل معها. في الثامن والعشرين من نوفمبر 1979 استدعى وزير الدفاع الفرنسي إيفون بورجي الكابتن بول باريل أحد أبرز ضباط وحدة مكافحة الإرهاب، والذي كان مكلفاً بتقديم شرح للأمير السعودي أثناء زيارته المذكورة أعلاه إلى مقر الوحدة حول القدرات التي تتمتع بها الوحدة. أمر وزير الدفاع الكابتن باريل باختيار مجموعة من زملائه لترافقه في التو في رحلة على متن طائرة خاصة إلى عاصمة المملكة السعودية، الرياض، وقال له: "لقد تعرضت حكومة السعودية لأزمة رهائن، وهي بحاجة إلى مساعدتنا". إثر وصوله إلى الرياض، وجد الكابتن باريل أن الوضع أسوأ بكثير مما كان يتصور، بل وجد المسؤولين السعوديين في حالة ارتباك شديدة لم تمكن رئيس أركان الحرس الوطني الجنرال عثمان من تقديم تقرير واضح لضيوفه الفرنسيين عما كان يجري، وكل ما حصل عليه باريل هو اقتراح بأن يستقل الطائرة هو ومرافقوه ويتوجهوا في الحال إلى مدينة الطائف القريبة من مكة حيث تتفاقم الأزمة ساعة بعد ساعة. وكان مما أدركه باريل قبل أن يطير إلى الطائف أن النظام السعودي يتعامل مع حادثة الحرم على أنها محاولة انقلابية تستهدف الإطاحة بالنظام السعودي بأسره، وهذا ما خلق جواً عاماً من الريبة في كل أنحاء الممكلة. وفي الطائف تبين للفريق الفرنسي أن اللجوء إلى فرنسا إنما جاء بعد أن يئس السعوديون من الأمريكان الذين كانوا يديرون عملية الاقتحام الفاشلة، وذلك أن الضباط المشرفين على العملية لم يكونوا من القوات الخاصة وإنما من القوات النظامية التي لم تتدرب لمثل هذه العمليات. اصطحب السعوديون الكابتن باريل في جولة حول الساحة المحيطة بالمسجد بعد أن ألبسوه ثوباً عربياً حتى لا يعرفه أحد، فاكتشف أن القوات المهاجمة للحرم من الخارج كانت تتصرف كل مجموعة من مجموعاتها بشكل مستقل، فلا تنسيق ولا اتصالات ولا خطط محكمة، مما كبدها خسائر فادحة في الأرواح. كان أثناء تجواله يسمع الصوت الهادر المنبعث من مآذن الحرم ينادي على الناس بأن يخرجوا على الظلم والانحراف والفساد ليقيموا دولة الإسلام من جديد. نصبت للخبراء الفرنسيين الثلاثة خيمة وزودوا بسيارة بيك آب شفرليه، ولم يكن معهم من السلاح سوى مسدسات ماغنم 537. سمع باريل بعض الضباط السعوديين يتحدثون عن خطة لإغراق أقبية الحرم بالمياه ثم توصيلها بالكهرباء لصعق كل من فيها. على الرغم من أن الفكرة جنونية، ومع أن ما يزيد على 3000 رهينة يمكن أن تتعرض حياتها للخطر، إلا أن باريل اعتبر المشروع معقولاً من حيث المبدأ. ولكن بعد حوار مع زملائه، توصل إلى قرار بتطبيق نفس المبدأ ولكن باستخدام الغاز. واعتماداً على معلومات مكثفة جمعها الحرس الوطني من شهود كانوا داخل الحرم وتمكنوا من الفرار، أمكن رسم خريطة تقريبية تحدد المداخل والمخارج إلى الأقبية التي تبلغ مساحتها الإجمالية 65 ألف متر مربع. وقد تبين في ذلك الوقت عدم وجود أي ***ئط أو مخططات لمبنى الحرم من الداخل. استطاع باريل وزميلاه بناء على المعلومات التي زودهم بها الحرس الوطني إعداد خطة شاملة لاقتحام الحرم المكي وتطهيره من الثوار. وفي لقاء له بالقادة العسكريين في الحرس الوطني شرح لهم الخطة، ولما كانوا هم أنفسهم قد استنفذوا كل ما لديهم من أفكار ولم يبق أمامهم خيار، فقد وكلوا أمرهم للخبراء الفرنسيين وأعلموهم بموافقتهم على كل ما ينوون عمله. كانت خطة باريل تقتضي تدريب قوة سعودية لمكافحة الإرهاب في زمن قياسي لا يزيد عن 24 ساعة، ولذلك فقد طلب من قادة الحرس الوطني تزويده بثلاثين من خيرة ضباطهم الصغار وستين من أفضل ما لديهم من الجنود المنتسبين لقوات الحرس الوطني ليوزعهم على فرق صغيرة يدربها فيما هو متاح له من الوقت على استخدام المتفجرات وإطلاق غازات تسبب الشلل، وطلب من القادة تزويده بكل ما يقع تحت أيديهم من أجهزة إرسال لاسلكي حقلية. وبينما انهمك القادة السعوديون في توفير ما طلبه باريل، توجه هو برسالة عاجلة إلى وزارة الدفاع في باريس يطلب تزويده بثلاثة أطنان – وهي كل ما كان بحوزة الجيش الفرنسي في ذلك الوقت – من غاز خانق يعرف باسم دايكلورو بينزو مالمونيتريل، وخمسين مرش غاز، وخمسمائة رطل من المتفجرات، وكمية من الصواعق والفتائل وثلاثة آلاف قناع واقي من الغازات وغير ذلك من المعدات. لم يصدق مسؤولو وزارة الدفاع ما كانوا يقرأون في رسالة باريل، حتى أثير الأمر مع رئيس الدولة فاليري جيسكار ديستا الذي أجاز الطلب بعد تشاور مع كبار مسؤوليه. كل ما اشترطه الفرنسيون هو أن يبقى دورهم في العملية طي الكتمان، وأصدرت وزارة الدفاع تعليماتها إلى فريق الخبراء في الطائف بأن يجري محاولة واحدة فقط لا غير ثم ينسحبوا مباشرة من السعودية عائدين إلى فرنسا، وأمر باريل بالذات ألا يسمح لنفسه تحت أي ظرف من الظروف بالدخول إلى المسجد، وذلك أنه كان قد اقترح في خطته التي قدمها لرؤسائه في باريس أن يدخله ليقود العملية بنفسه. بل إن مسؤولاً كبيراً في وزارة الدفاع كان قد خول أحـــد أفراد الطاقم الفرنسي دون علم باريل صلاحية أن يلقي القبض على الكابتن ويعيده إلـــى باريس إذا لم يتقيد بالتعليمات. وفي أقل من 48 ساعة وصلت المواد التي طلبها باريل على متن طائرة كارافيل رئاسية استخدمت للتمويه. حُمّلت الطائرة إلى طاقتها القصوى، وأحيط أمر الشحنة بالسرية التامة حتى عن طاقم الطائرة. بدأت عملية تديب التسعين عنصراً من عناصر الحرس الوطني الذين انضم إليهم عدد من عناصر وحدة المظليين، وما جمع بين هؤلاء هو ولاؤهم المطلق لآل سعود. تم تقسيمهم إلى مجموعات منفصلة تتكون كل منها من ثلاثة عناصر، جنديين وضابط. يكلف أحد الجنود بمتابعة الاتصالات بينما يقوم الآخر بمهمة إطلاق الغاز في الوقت الذي ينفذ فيه الضابط عملية التفجير. تقاسم الفريق الفرنسي مهمة التدريب بحيث يدرب باريل الضباط على تنفيذ التفجيرات للإطاحة ببوابات الأقبية بينما يقوم زميلاه بتدريب الجنود على الاتصالات وعلى رش الغاز. ببرود منقطع النظير، وبتصميم المحترف، يتناول باريل رطلاً من المادة المتفجرة يكوره في يده ككرة التنس، ثم يعلم الضباط السعوديين كيف يقسمونها إلى أربع قطع تلصق كل قطعة بزاوية من زوايا البوابة المراد تفجيرها ثم يغرس في كل قطعة صاعق متصل بفتيل طويل، تلتقي الفتائل الأربع لتنتهي في مفتاح تشغيل. وهكذا، سيتم تفجير البوابات الواحدة تلو الأخرى لاقتحام كل الأماكن التي يشك بوجود ثوار وراءها. وإذا ما ووجهت المجموعة المقتحمة بإطلاق نيران، فإن على الضابط أن يرد بنيران من مدفعه الرشاش بينما يتولى أحد الجنود رش الثوار ومن معهم بالغاز المسبب للشلل. ولذلك توجب على الجنود والضباط أن يعتادوا على العمل وهم يرتدون الأقنعة الواقية من الغاز، التي لم يستخدموها من قبل، والتي قد تزيد ظلمة الأقبية من صعوبة الرؤية مــــن خلالها. كان على الجنود المكلفين برش الغاز أن يحمل كل واحد منهم على ظهره أنابيب تحتوي على عشر كيلوغرامات من بودرة دايكلورايد وتتصل ببربيج ضغط تنطلق منها البودرة كما هو الحال في طفايات الحريق، وفي تلك الأثناء يتولى أصحاب اللاسلكي الاتصال والتنسيق مع المجموعات الأخرى باستخدام رموز متفق عليها. قسمت المجموعات بحيث يتولى نصف العدد الإجمالي اقتحام خمس عشرة نقطة خارجية من مجموع اثنتين وعشرين تم اكتشافها، ثم تتبعها فرق مساندة من خلفها ومن خلف هؤلاء تتقدم مدرعات محملة بمزيد من المتفجرات وإسطوانات الغاز والذخيرة لاستخدامها حين الحاجة إليها. حددت ساعة الصفر بالساعة العاشرة صباحاً من يوم الرابع من ديسمبر 1979. ونصبت مدافع رشاشة في كل المواقع الاستراتيجية المحيطة بالمسجد. وحينما حانت ساعة التنفيذ أصدر الكولونيل المتزعم لقوات الحرس الوطني الأمر بإطلاق النار بكثافة من هذه الرشاشات تجاه مواقع القناصة على رؤوس المآذن. وفي ظل هذه التغطية الكثيفة بدأت المجموعة المكلفة بالاقتحام بالزحف نحو الحرم، وما أن صارت بداخله حتى توزعت حسب الخطة وبدأت كل مجموعة في تدمير البوابات المؤدية إلى الأقبية البوابة تلو الأخرى. وطوال فترة ما بعد الظهيرة والمساء، اهتزت الأرض في مكة بفعل الانفجارات المتعاقبة في أقبية الحرم المكي، وخلال ساعات قليلة نفذ طن الغاز الذي كان يحمله الجنود على ظهورهم، فأدخل الطن الثاني إليهم لينفذ هو بدوره، ثم أدخل الطن الثالث دون أن تلوح مؤشرات على قرب انتهاء العملية مما أقلق باريل وجعله يتساءل إن كان سيحتاج إلى كمية أخرى من الغاز. ولكن ما أن أوشك الليل أن ينقضي حتى هدأت أصوات الانفجارات، وبدأت فرق الاقتحام تلتقي في الأقبية بعد أن شلت قدرات الثوار على المقاومة. بعد ذلك، لجأ باريل إلى خيمته ليحتفل بما أنجزه من انتصار شرع يحتسي مادة "سامة" من نوع آخر هي قارورة ويسكي سربت سراً من فرنسا على متن الطائرة الرئاسية ذاتها التي حملت الغاز والمعدات ، وبعد أن تناول عدة كؤوس آوى إلى فراشه ليعوض بعض ما افتقده من نوم خلال الساعات الماضية. وفي الصباح، نهض من نومه على صوت شاحنات الحرس الوطني وهي محملة بأكوام من الجثث التي كانت تستخرج من الأقبية. وما هي إلا لحظات حتى جاء من يخبره بأن كافة الثوار ومن معهم من رهائن قد اختنقوا حتى الموت بمفعول البودرة التي أتى بها من فرنسا والتي حولت أقبية الحرم إلى مقبرة جماعية. وقد قدر عدد القتلى بما لا يقل عن خمسة آلاف إنسان..

هذا والله أعلم

ـــ

منــــقول

ــ

تحياتي .. صديق الكل