أقسم المولى في الآيات الكريمة أعلاه بجميع مخلوقاته سواء كانت مرئية بالعين المجردة أو بواسطة المجهر والمرصد، أو غير مرئيّة كالأشعة المجهولة والملائكة والروح والجان والجَنّة والنار وكل الغيبيات. ربما كان ذلك، والله أعلم، لكي يتوقف الإنسان العاقل مطوّلاً أمام بديع الصنعة والإعجاز الكامن في كل خلق من مخلوقات الله بدءاً من أصغر جُسيم في الذرة وهو الكوارك (Quark) وانتهاءً بأكبر المجرات وأبعدها. ففي دراسة كل خلقٍ من مخلوقات الله دليل إيماني محسوس على وجود الخالق وعظمته. وكلما ازداد الإنسان العاقل علماً ازدادت معرفته بالخالق وخشعت جوارحه في طاعته.
وأقسم المولى أيضاً بذاته والعديد من مخلوقاته في آيات قَسَمٍ خاصة هي في أكثرها آيات علمية إعجازية في مضامينها، بمعنى أن بعضها أصبح اليوم مبادئ أساسية وقوانين رئيسة في مختلف فروع العلوم المادية. ولقد وجدنا أن أكثر آيات القَسَم الكريمة لم تُوَفَّ حقها من التعليق العلمي، ربما لأن العلم لم يكشف مضامينها إلا متأ***ً بعد قرون من التنزيل. وتبقى آيات قَسمٍ كثيرة لم يكشف العلم تأويلها بعد، والواجبُ يلزمنا اليوم بالتوقف والشرح العلمي المطوّل مع آيات القَسَم التي تيسّر لنا الإطلاع على شيء من مضمونها العلمي. ونبدأ بالشرح المبسَّط لمعاني قوله تعالى: (والسمائِ ذاتِ البُرُوجِ).
في معاجم اللغة أن (البُروج) جمع (بُرج) وهو البناء العظيم، فهو إذن كل تجمُّع للنجوم وليس فقط منازل الشمس والقمر والكواكب بالنسبة للنجوم، وهي اثنا عشر تجمّعاً من النجوم، سميت بالبروج(1) معروفة منذ القدم، تسير الشمس في كل برج منها شهراً، ويسير القمر في كل منها يومين وثلث يوم. وفي الشرح العلمي المبسَّط عن تجمعات النجوم كما كشفه علم الفلك في القرن العشرين يجد المسلم فكرة عامة عن بروج السماء التي أقسم المولى بها وأسمى سورة من كتابه الكريم باسمها.
2 – بنية الكون: (لخلقُ السماوات والأرض أكبر من خلق الناس، ولكن أكثر الناس لا يعلمون) [سورة غافر: الآية 57].
عندما نظر (غاليله) إلى السماء من خلال أول منظار بناه بنفسه في سنة 1609، رأى ما أذهله في الكون. وخلال أربعة قرون من هذا التاريخ بنى الإنسان مراصد متطورة كمراصد جبل بالومار (Palomar) وكيت بيك (Kitt Peak) في الولايات المتحدة ومرصد جبل سميرودريكي (Semirodriki) في القوقاز، ولايزال علماء الفلك يكتشفون من خلالها كل يوم ما يذهل في هذا الكون الفسيح. فالإنسانية، كما قال العالم بيكر (Piker)، لن تنتهي من سبر أغوار الكون، وهي لن تعرف من الكون إلا مقدار ما نعرفه عن نقطة ماء في محيط؛ أو كما قال (نيوتن)، مكتشف مبدأ الجاذبية منذ ثلاثة قرون ونيّف: (لست أدري كيف أبدو في نظر العالَم، ولكني في نظر نفسي أبدو كما لو كنت غلاماً يلعب على شاطئ البحر ويلهو بين الحين والآخر بالعثور على حجر أملس أو محارة بالغة الجمال، في الوقت الذي يمتد فيه محيط الحقيقة أمامي دون أن يسبر أحد غوره).
3- عالم المجرات (والسماء وما بناها) [سورة الشمس: الآية 5].
المجرة (Galaxie) هي الوحدة الأساسية في تركيب الكون، وهي تجمعات هائلة من النجوم (Etoile – Astre) والكواكب (Planetes) وتسمى سديماً (Nebuleuse) عندما يغلّفها الدخان أو الغبار الكوني. والمجرات أنواع، فالمجرة القزم تتألف من عشرة ملايين نجم، أما المجرة العملاقة فيصل تعداد نجومها إلى عشرة آلاف مليار نجم ترتبط بعضها ببعض بواسطة قوة الجاذبية. أما مجرتنا المسماة بالطريق اللبني والتي يتبع لها نظامنا الشمس فمؤلفة من مئة مليار نجم تقريباً منها الشمس، وهي نجم متوسط الحجم، وبعض النجوم تكبر الشمس بعشرات أو مئات المرات. والمجرة اللبنية تبدو من خلال المراصد كقرص (Disque) قطره تسعون ألف سنة ضوئية وسمكه خمسة آلاف سنة ضوية (السنة الضوئية تساوي 9416 مليار كلم أو عشرة آلاف مليار كلم تقريباً).
وفي حين يصل إلينا نور القمر في ثانية وثلث ونور الشمس في ثماني دقائق، فإن النور يستغرق مئة ألف سنة ليصل بين طرفي قرص المجرة اللبنية (يقطع النور ثلاثة مئة ألف كلم في الثانية). وهناك مجرات تكبرهما بعشرات المرات. وفي الكون أُحصيَ حتى الآن مئة مليار مجرة تقريباً وكلها تدور وتجري بسرعة متفاوتة. فالأرض تدور حول الشمس بسرعة 30 كلم في الثانية تقريبا، والشمس تجري بسرعة 19.7 كلم في الثانية بالنسبة للنجوم المجاورة لها. أما أسرع المجرات فهي التي تحمل الرقم (3-2. 295) إذ تصل سرعتها إلى 36% من سرعة الضوء أي 108 آلاف كلم في الثانية.
والنجوم والمجرات لا تتوزع عشوائياً في الكون، فالنجوم تتجمع مع بعضها لتؤلف المجرة، والمجرات تتجمع مع بعضها لتؤلف مجموعة محلية (Groupe Locale) مؤلفة من عشرات المجرات والمجموعة المحلية تتجمع مع بعضها لتؤلف كدس المجرات (Amas des Galaxies) المؤلف من بضعة آلاف من المجرات، وأكداس المجرات تتجمع كل خمسة أو ستة فيما بينها لتؤلف كدساً عملاقاً (Super Amas). فالنجوم هي حجر البناء في المجرة، والمجرة هي بيت في الكون، والمجموعة المحلية هي قرية في الكون. أما كدس المجرات فهو مدينة في الكون والكدس العملاق عاصمة من عواصمه العديدة حسب تشبيه علماء الفلك. فالشمس مع بقية كواكب النظام الشمسي ومئة مليار نجم وغيرها تتجمع مع بعضها لتؤلف مجرتنا اللبنية، ومجرتنا اللبنية مع توأمها مجرة أندروميد (Andromede) التي تبعد عنا 2.3 مليون سنة ضوئية وغَيْمَتا (ماجلان) الصغرى والكبرى (Nuages de Magellan) وخمس عشرة مجرة قزماً (Galaxie Naine) تتجمع مع بعضها لتؤلف المجموعة المحلية التي تمتد أبعادها إلى خمسة عشر مليون سنة ضوئية وتبلغ كتلتها عشرة آلاف مليار مرة كتلة الشمس (46-10 غرام).
وهذه المجموعة المحلية تتجمع مع غيرها لتؤلف كدس المجرات (Amas de Galaxies) الذي يحوي بضعة آلاف من المجرات وتصل أبعاده إلى ستين مليون سنة ضوئية وكتلته إلى بضعة ملايين المليارات من كتلة الشمس (48-10 غرام). وقد استطاع العلماء حتى الآن إحصاء ثلاثة آلاف كدس منها في نصف الكرة الجنوبي للكون.
إلا أن تركيب الكون لا يتوقف عند هذا الحد، فأكداس المجرات تتجمع فيما بينها كل خمسة أو ستة لتؤلف كدساً عملاقاً (Super Amas) تصل أبعاده إلى مئتي مليون سنة ضوئية وكتلته إلى عشرة ملايين مليار مرة كتلة الشمس (49- 10 غرام). فمجرتنا اللبنية ما هي إلا جزء من كدس عملاق مؤلف من عشرة آلاف مجرة(2).
إن هذه الأرقام المبسطة عن النجوم والمجرات وتجمّعاتها وأكداسها تعطي المؤمن شيئاً عن قوله (والسماء وما بناها) [سورة الشمس: الآية 5]، وعظمة قَسمه ببروج السماء، وتجعله خاشعاً أمام عظمة خالق الكون عندما يقرأ قوله تعالى: (تبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً مُنيراً) [سورة الفرقان: الآية 61]. كذلك نرى أن رقم مئة مليار مجرة في الكون يتألف أصغرها من عشرة ملايين نجم وأكبرها من آلاف المليارات من النجوم وكلها تجري بسرعات هائلة متفاوتة كل نجم في مسار خاص دون تصادمٍ بينها وفق نظام قانون الجاذبية الكونية، نرى أن هذا الرقم أيضاً يعطي فكرة عن معنى قوله تعالى: (لخلقُ السماوات والأرض أكبرُ من خلق الناس) [سورة غافر: الآية 57] (في عظمة الصنعة)، وقوله تعالى: (إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا) [سورة فاطر: الآية 41] (بواسطة القوانين التي تحكم مسار الأجرام السماوية).
لذلك كان التفكير في خلق السماوات والأرض آيات لأولي الألباب: (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب) [سورة آل عمران: الآية 190].
ولقد ظل طريق الصواب كل مَنْ يُفتشُ عن القوانين التي يقوم عليها نظام السماوات والأرض دون الرجوع إلى القرآن الكريم.
الهوامش
1 – الحمل – الثور – الجوزاء – السرطان – الأسد – السنبلة – الميزان – العقرب – القوس – الجدي – الدلو – الحوت.
2 – Trinh Thuan. La Melodie, pp. 174 – 2.
ويعطيك العافيه