دعوني أعود إلى أحلى الذكريات ؛
حين كُنتُ طالبة في نهابة المرحلة الإعدادية وتعرَّفتُ على زميلة جديدة بفصلي بالمدرسة.
كانت فتاة وضيئة الوجه،هادئة،وديعة،متسامحة،رقيقة،على خُلُقٍ قَويم ،واسمها ((رحاب)) ،وكانت تقطن بجوارنا …فكنا نذهب إلى المدرسة ونعود سوِيَّاً، وكانت أحاديثنا في الغالب لا تتعدى أخبار المدرسة والدراسة ، والأخبار العامة لأسرتها وأسرتي ،والمسلسل التليفزيوني،وأغاني المطربة فيروز.
ولم تكن رحاب تتحدث معي في الدين إطلاقاً،ولكنها كانت تفعل شيئاً كان في البداية يُدهشني،ولكنه مع مرور الوقت- وتكراره -كان يُشعرني بوَخز الضمير!!!!
فقد كانت تحرص بين الحين والآخر على أن تعيد ربط الإيشارب ، ليصبح حجابها مضبوطاً …فلا تظهر منها شعرة واحدة!!!!
وكنت -على الع** منها- أحرص يومياً على تغيير تسريحتي، بل وتغيير لون السُترة التي أرتديها فوق الزي المدرسي لتناسب لون الحقيبة المدرسية!!!!
وأصبح ما تفعله رحاب –مع الوقت- يؤلمني، بل ويدفعني إلى التفكير:" لماذا تفعل رحاب ذلك؟!!!!" وما هذا الحرص الشديد على كل شعرة لديها؟!!!
وبدأت أفكِّر لماذا هي كذلك ولماذا أنا كذلك؟
ومَن منَّا على الحق وَمن مِنَّا على الباطل؟!!!!
لقد نشأتُ في أسرة مُحافظة متدينة تقدِّر الأخلاق كثيراً ، وكانت كلمة (حرام)-في بيتنا- تعني أن هذا الشيء بشع ولا يجوز فعله على الإطلاق….ولكن أمي لم تكن ترتدي الحجاب،وكذلك قريباتي وجاراتي وغالبية زميلاتي بالمدرسة وجميع المدرسات بالمدرسة،فلماذا نلتزم بكل تعاليم ديننا ما عدا الحجاب؟؟؟؟!!!!!
فهداني ربي إلى التفكير في أن هذا هو التقليد الأعمى للاستعمار الذي غزا بلادنا كي ينهب خيراتها،ثم يغزو عقولنا وقلوبنا،ويوهمنا أنه أفضل منَّا …وبما أن الطبيعة البشرية دائماً تتطلع إلى الأفضل ،فهي تميل إلى أن تقتدي به وتقلِّده….وتذكَّرتُ نساء الجاهلية في المسلسلات الإسلامية،لقد كُنَّ يرتدين الحجاب،ولكنهن كُنَّ يُظهِرن خصلة من مقدمة الرأس ، ومكان القلادة…. فقط!!!
إذن نحن أسوأ من نساء الجاهلية الكافرات!!!!!
وبدأت أشعر بخطورة الأمر، إن " رحاب" تطيع أمر الله ،وتقتدي بالصالحات من المؤمنين ، ونحن نطيع الشيطان وأعوانه من البشر، ونلتزم بسُنَّة الكفار من المستعمرين!!!!!
وبدأت أشعر بالخِزي من ربي…ماذا سأقول له حين ألقاه إذا سأني:" لماذا لم ترتدي الحجاب وقد أمرتُكِ به؟!!!!"
هل سأقول له:
* لأنني اتَّبعتُ الكفار وأعرضتُ عن سُنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم؟!!!
وماذا فعل بنا الكُفَّر ،وماذا فعل بنا الرسول صلى الله عليه وسلم؟!!!
فأي الفريقين أحق أن أتَّبِع؟!!!
أم لأنني آثَرتُ هواي على أوامره؟!!!*
وكيف ذلك وهو الذي خلقني بيديه وهداني للإسلام،وأعطاني من النِّعم ما لا أستطيع أن أحصيه؟!!!
*أم لأنني أكثر جمالاً بدون الحجاب؟!!!
وكيف سيكون جمالي حين أُلقى في النار بسببه,وحين أُعلَّق من شَعري في جهنَّم؟!!!!
* أم لأنني أحب الأزياء والموضة؟
إن الحجاب لا يمنع أن أكون أنيقة.
* أم لأنني أخشى أن تسخر مني زميلاتي أو صديقاتي؟
فهل ستحمل عني إحداهن شيءاً من لاعذاب يوم القيامة،ام ستقول:" نَفسي ….نَفسي؟!!!"
وبدأت أشعر بأن الحجاب شيء حتمي وأنني لابد من أن أرتديه عاجلاً أو آجلاً.
وأصبحتُ بعد ذلك أسمع الأذان بشكل مختلف…لقد أصبحت أُصغي إليه بقلبي!!!
وصرتُ كلما سمعتُ الأذان تذكَّرتُ الآخرة ، وتذكَرتُ المَوت الذي يأتي في لحظة لا نعلمها ولا نتوقَّعُها…وبدأت أشعر بالخوف الشديد من أن يأتيني الموت قبل ارتدائي للحجاب!!!!!
بل والأكثر من ذلك، لقد صرت أشعر أن النداء"حيَّ على الفلاح" يقول لي:" هيا إلى الحجاب"!!!!!!!
فبدأت أحاول تجربة شكلي بالحجاب أمام المرآة،وأتحدث إلى نفسي:" هيا تشجَّعي،إن شكلك بالحجاب ليس أسوأ بكثير…كما أن جمالك لن يشفع لك عند ربك ،بل سيصير قُبحاً إذا دخلتِ جهنم بسببه،هيا أقبِلي،ففي الجنة ستصبحين أجمل من الحور العِين-كما سمعتُ من أبي-هيا أطيعي الرحمن واطردي وساوس الشيطان"
وقرَّرتُ أن أجرِّب نفسي ، خوفاً من أن أرتديه ،ثم أخلعه…فأصبحت أكتفي بتسريحة واحدة،تضم الشعر من الخلف، ثم أصبحت أرتدي الكم الطويل –وكنا مقبلين على فصل الصيف- فكنت أهم بتشمير قميص المدرسة مراراً وتِكراراً كلما تضايقتُ من الحرّ،ولكني كنت أقول لنفسي: لا تفعلي فجهنم أشد حرَّاً !!!!
وصِرت كلما زارنا أحد بالمنزل، إرتديتُ سُترة بكُم طويل حتى ألتزم بقراري…ولما لاحظَت زميلاتي بالمدرسة أن تسريحتي أصبحت-تقريباً- واحدة تساءَلن،فقلتُ لهن بكل شجاعة( أنا أنوي أن أرتدي الحجاب))،فلم تصدِّق واحدة منهن!!! وقُلن لي : لابد أنك تمزحين،فهذا شيء لا يمكن أن نصدِّقه…ولكني لم أسترسل معهن في هذا الحديث بل كنت أحدِّثهن عن أهمية الحجاب،فكُنَّ يتعجَّبن،ولكن دون تعليق.
ومع الوقت أصبح شَعري بالنسبة لي-حين خروجي من المنزل- شيءٌ أقوم بضمِّه من الوراء بشكل منسَّق…ولم تعد تلك التسريحات تشغلني ،كما اعتَدت أن أرتدي الكُم الطويل حتى في الصَّيف،فقررتُ أن أطلب من والدتي أن تُحيك لي بلوزات طويلة-تصل إلى تحت الرُّكبة- لأرتديها على البنطلونات الجينز (كبداية) ولكنها اعترضت بشِدَّة وقالت لي: "أخشى أن تخلعيه..كما أنك حين تدخلين الجامعة لابد وأنك ستغيرين رأيك" فأوضحتُ لها أن الأمر مُلِحٌ بالنسبة لي وأنني أفكِّر فيه منذ شهور…وأمام إصراري وإلحاحي لم تملك أمي إلا أن تستجيب لرغبتي.
وفي أول يوم ارتديتُ فيه الحجاب كان أبي في غاية السعادة ، وكان إخوتي مندهشين،أما العائلة والجيران والأصدقاء،فعلى الرغم من اندهاشهم،إلا أنهم شجَّعوني كثيراً،حتى أن بعضهم قال لي:" لقد أصبحتِ أكثر جمالاً بالحجاب"!!!!!
وزاد ذلك بالطبع من سعادتي، ولكن سعادتي الحقيقية كانت بداخلي… فقد شعرتُ بالنور يغمرني،و شعرت ُكأنني لم أعد أعيش على الأرض **ابق عهدي..بل أحسستُ كأنني أعيش بجزء كبير منِّي في السماء، وجزء يسيرٌ على الأرض…والأهم من ذلك أنني شعرت براحة الضمير، وعدم الخِزي من ربي إذا قابلته!!!!
ولم أعد أخشى الموت…فلقد صحَّحتُ مساري، واختَرتُ طريق العِزَّة ،والفُوز والنَّجاة…ألا وهو طريق ربّي!!!!!!
وانتهت المشكلات المتكررة بيني وبين أبي وأخي الأكبر بسبب تعليقاتهما على ملابسي وتسريحاتي كلما خرجت من المنزل، وأصبح أبي راضياً عني، فخوراً بي، وأصبحَتُ وأخي الأكبر أصدقاء،أما أخي الأصغر فكان ما يزال مندهشاً!!!
وأما أمي فكانت تشعر بالحرج لأنها لم ترتدي الحجاب بعد، فكانت تقول لتريح ضميرها:" سأرتديه بعد أن أؤدي فريضة الحج"!
وكانت رحاب هي أسعد الناس بحجابي، وأصبَحَت -بعد ذلك -هي أقرب الناس إليَّ، فلما حدَّثتُها عن شعوري بالجهل الديني-فمعلوماتي في الدين لا تتجاوز ما درسناه بمادة التربية الدينية بالمدرسة- إقترحَتْ عليَّ أن أذهب معها إلى الدروس الدينية عصر كل يوم خميس، فاستأذنتُ من أبي وأصبحتُ أرافقها إلى رياض الجنة!!!
نعم، لا تتعجبي ، فقد كنت أشعر بذلك وأنا أتلقى هذه الدروس…فرأيت أن أعرض على أمي أن تصحبنا، وكذلك طلبت من والدة رحاب (مع أنها ملتزمة بالحجاب)،ولكني أردتُ أن تحظَى أمي بصُحبة متدينة، فوافقَت أمها، وأصبحنا نذهب نحن الأربعة عصر كل خميس إلى رياض الجنة….فتأثَّرت أمي كثيراً بهذه الدروس، وحرصَت في موسم الحج التالي على تأدية هذه الفريضة ، فعادت من الأراضي المقدَّسة ترتدي الحجاب وهي في غاية السعادة والرِّضا!!!!!
والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كُنَّا لِنَهتدي لولا أن هدانا الله.