تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » إحذروا هذا التبشير المُسلَّح

إحذروا هذا التبشير المُسلَّح 2024.

  • بواسطة
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا المقال كتبه اللأستاذ الصحفي "فهمي هويدي"في جريدة الشرق الأوسط 24/3/2003 ،إقرأوا واعتبِروا.

ليس صحيحا دائما ان التاريخ لا يعيد نفسه، لان التاريخ كثيرا ما يعاند ويثبت لكل من يهمه الامر انه يمكن ان يعيد نفسه، احيانا الى حد الاستنساخ. على الاقل فهذا ما بدا لي حين تابعت تصريحات المسؤولين الامريكيين التي واكبت الحملة العسكرية ضد العراق،

وحين وقعت على بعض المنشورات التي اسقطتها الطائرات الغازية على المدن والقرى العراقية، بمعدل منشور لكل مواطن. فقد خيل الي انني مررت بهذا الكلام وقرأته من قبل، وحين عدت الى مكتبتي وجدت ان هذا الذي يفعله الامريكيون في تسويق مهمتهم في العراق هذه الايام، هو ذاته الذي فعله نابليون بونابرت اثناء الحملة الفرنسية التي قادها على مصر في نهاية القرن الثامن عشر (عام 1798) وتلك قصة جديرة بأن تروى.
فالحملتان تندرجان بامتياز تحت عنوان «التبشير المسلح»، بمعنى ان كلا منهما جاءت رافعة شعارات وبشارات جذابة فوق صواري السفن الحربية وعلى اجنحة الطائرات النفاثة وفي ثنايا الصواريخ «الذكية». وكانت الشعارات قناعا استخدم لاخفاء المقاصد الحقيقية، فالتصريحات الامريكية وكذا المنشورات ما برحت تتحدث عن المودة التي يكنها الغزاة للشعب العراقي، وحرصهم على تخليص العراقيين من الظلم الواقع عليهم، وعن شمس الديمقراطية التي ستشرق على البلاد، والرخاء الذي سيحل بربوعها حين تودع عائدات النفط في صندوق اعمار البلاد وتلبية احتياجات العباد، الى غير ذلك من الوعود التي مللنا سماعها، دون أن نصدق منها حرفا، طيلة الاسابيع الاخيرة في الخطابات الرسمية، بل وفي تعليقات بعض الابواق الامريكية.
هذه اللغة هي ذاتها التي استخدمها نابليون بونابرت حينما قدم اسطوله الى الاسكندرية في مستهل شهر يوليو (تموز) عام 1798، فقد كان اول ما فعله انه وزع على الاهالي منشورا أورد نصه الجبرتي، مؤرخ مصر الشهير، ووجدنا انه تصنع الورع فبدأ بالبسملة، والاعلان عن انه لا اله الا الله، الذي لا ولد ولا شريك له في ملكه، ثم اخبر المصريين ان السر عسكر الكبير امير الجيوش الفرنساوية بونابرت يريد معاقبة المماليك الذين ظلموا الشعب المصري وتمردوا على السلطان العثماني ثم قال: يا أيها المصريون، قد قيل لكم انني ما زلت بهذا الطرف الا بقصد ازالة دينكم وذلك كذب صريح لا تصدقوه ـ وقولوا للمفترين انني ما قدمت اليكم الا لاخلص حقكم من يد الظالمين ـ وانني اكثر من المماليك اعبد الله سبحانه وتعالى، واحترم نبيه والقرآن العظيم» ـ وفي المنشور دعا بونابرت «المشايخ» الى اخبار الناس في مصر، بأن «الفرنساوية» هم ايضا مسلمون مخلصون…. الخ.
ان بونابرت اراد ان يخبر المصريين بأنه جاء الى بلادهم «مخلِّصا» لا غازيا. وذلك ما نقرأه في التصريحات والمنشورات الامريكية هذه الايام، ولانه رفع تلك الراية، وظن انه حكاية الخلاص هذه انطلت على الناس، فان بعضا من حوله استغرب للغاية فكرة ان يقاوم المصريون عسكر اولئك المخلصين، وفسروا ذلك بأنه نوع من التعصب وتعبير عن التخلف في الادراك، حتى تؤكد كتب التاريخ ان احد الكتاب الفرنسيين الف قصة للاطفال عنوانها «في مصر مع بونابرت»، وفي سياقها تعجب الجنود الفرنسيون من امر المصريين الذين تصدوا لهم وقاوموهم، وبلسانهم تساءل الكاتب: لماذا يهاجموننا وقد احضرنا لهم الحرية؟ (الا يذكرك ذلك بسؤال الامريكيين لماذا يكرهوننا؟).
الى شعار الحملة الراهنة هو «الحرية للعراق»»، وهدفها المعلن هو تحقيق «الخلاص» من حاكم بغداد المستبد، وذلك ليس صحيحا، بقدر ما ان نابليون كان كاذباً ومخادعاً، تذكر الدكتورة ليلى عنان استاذة الحضارة الفرنسية بجامعة القاهرة في كتابها عن «الحملة الفرنسية» ان فرنسا في القرن الثامن عشر اعتبرت نفسها رائدة التنوير ومعلمة البشرية (الكلام ذاته ينطبق على الولايات المتحدة الان) ـ واعتبرت ان النموذج الذي اقامته مثل يتيقن على الجميع احتذاؤه، ومن يرفض ذلك فانه يصنف نفسه في صفو العدو المارق، الذي يتعين تأديبه والقضاء عليه، وهو ما فتح الباب لاجراء تصفيات داخلية، والى التمدد ومحاولة الاستيلاء على الدول المجاورة، واسبانيا في المقدمة منها.
ليس صحيحا ان الحملة الفرنسية استهدفت تحرير المصريين من ظلم المماليك، أو تنوير مصر وتحديثها، ولكن الحملة كانت جزءا من صراع القوى العظمى في ذلك الزمان حول الهيمنة وبسط النفوذ، اذ بعد ان فقدت فرنسا مستعمراتها خلال القرن الثامن عشر، فانها وجدت اغراء في الزحف على مصر والشرق، لقطع الطريق على بريطانيا، والتي وطدت اقدامها في الهند، وللتمدد في بلد ضعفت فيه السلطة العثمانية، التي كانت الشيخوخة قد دبت في اوصالها (اصبحت «رجلا مريضا» فيما بعد)، ووجدت في مصر منطقة رخوة سهلة الابتلاع (تماما كما هو حال العراق في ظل النظام العربي) ـ واذ اصبحت السلطة العثمانية صورية في مصر، التي كان المماليك حكامها الفعليين، فأن فرنسا وجدتها فرصة سانحة للانقضاض عليها قبل ان تستولي عليها قوة اخرى.
وهو يحاول تمثيل دور «المخلص»، فان نابليون الذي قيل انه سوف يعتنق الاسلام، وسيرتدي العمامة، ويجعل الجيش كله يتبع قانون «محمد»، كما قال مواريي احد ضباط الحملة في مذكراته، اصدر مجموعة من القرارات الاصلاحية لتحسين صورة نظامه، فأنشأ المحاكم التجارية، ومنع العقوبات الجسدية في اطار حزمة من التنظيمات القانونية الجديدة، وامر باستحداث مكاتب للتسجيل وتدريب السكان على الصناعات الصغيرة. واهم من ذلك كله انه اصدر مرسوما بانشاء المعهد الفرنسي في مصر، الذي حدد له ثلاثة اهداف هي: تقدم ونشر التنوير في مصر ـ البحث ودراسة ونشر العوامل الطبيعية والصناعية بمصر ـ ابداء الرأي في الامور المختلفة التي ستطلبها منها الحكومة ـ علاوة على ذلك فان المعهد يقترح جائزتين سنويتين احداهما لمسألة تخص تقدم الحضارة في مصر، والاخرى لمسألة تخص تقدم الصناعة، كما امر بونابرت بانشاء جريدتين هما: لاديكار اجبسيان، و.. لي كورييه ديجيبت.
اراد نابليون ان يتجمل بتلك الاصلاحات، وان يعطي انطباعا يخدع به الاخرين لكي يقتنعوا بمهمته «الرسالية». بل بدت تلك الاصلاحات، وكأنها قناع اصطنعه لكي يخفي به مقاصده الحقيقية، بدليل انه حين لم ينجح في حملته الى الشام واكتشف ان مقاصده في التوسع والهيمنة لم تحقق مآربها فأنه لم يمكث في مصر اكثر من 14 شهرا، عاد بعدها ادراجه الى فرنسا مرة اخرى.
السيناريو ذاته يتكرر هذه المرة مع الحملة الامريكية التي قرأنا وسمعنا كلاما كثيرا عن اهدافها التي تدغدغ المشاعر وترطب الجوانح، ولا تستبعد ان يسعى الامريكيون اذا ما نجحت حملتهم الى تحقيق بعض من تلك الاهداف والاصلاحات، الا ان القدر المتيقن ان ذلك كله سيطلب من قبيل التجمل الذي يراد به «بلع» الحملة والترحيب بها، ذلك ان ما ترفعه من شعارات عن الديمقراطية والاعمار والاصلاح وتوجيه موارد النفط لخدمة الشعب وتوفير احتياجاته، ذلك كله حق لا ريب، لكنه حق لا يقال لوجه الله، وانما يراد به باطل، لا يخفى امره على ذوي الابصار والالباب.
كما رأيت فان الهدف الاول الذي اعلن للمعهد الفرنسي كان تقدم ونشر التنوير في مصر، تماما، كما ان الهدف الاول المعلن للحملة العسكرية الامريكية هو اسقاط نظام بغداد لاقامة الديمقراطية في العراق، وليست هذه بدعة في حقيقة الامر، ولان مؤتمر الدول الاوروبية الذي عقد في عام 1884 لتحديد قواعد المنافسة في مجال السيطرة على العالم استخدم نفس اللغة لتسويغ اجتياح القارة الافريقية، ففي جلسة الافتتاح قال المستشار الالماني بسمارك ان كل الحكومات الاوروبية تحدوها الرغبة في اشراك سكان افريقيا الاصليين في التقدم الحضاري، عبر فتح القارة امام التجارة وعبر توفير وسائل التعليم لسكانها…. الخ، وكانت تلك بداية الاجتياح الذي قام به «المبشرون المسلحون» الذين اطلقت يدهم في نهب ثروات القارة واستعباد شعوبها.
على مدار التاريخ، فان المبشرين المسلحين لم يكونوا في حقيقة الامر سوى انبياء كذبة، تحدثوا في بشاراتهم عن اشياء كثيرة، لم يكن بينها اهدافهم الحقيقية، وكل ما انجزوه أو اضافوه من خير، جاء عرضا جانبيا وكان هدفا ثانويا، لكننا نعترف للامبراطورية الرومانية انها لم تستخدم ذلك الاسلوب المخادع، وانها لم تخف تطلعها الى التوسع والهيمنة واخضاع الشعوب لسلطانها، ولا بد ان نذكر لهتلر ايضا انه بدوره لم يكن مخادعا، وانما كان اكثر وضوحا من غزاة هذا الزمن، ذلك انه لم يتحدث عن الحرية أو الديمقراطية أو عن ادخال الشعوب الاخرى في طور المدنية والتحضر، وانما انطلق من فكرة عنصرية بحته تمثلت في تفوق وتسيد الجيش «الآري»، وليست هذه فضيلة بطبيعة الحال، لكنه في السياق الذي نحن بصدده لم يرتد ثياب المبشرين ولم يزعم لنفسه دورا رساليا كاذبا ولكنه وهو يمارس دوره الشرير كان اكثر وضوحا من غيره.
هذا التماثل في التيارات المغشوشة بين الحملتين الفرنسية والامريكية لا نستطيع ان نعرف ما اذا كان سوف يستمر الى النهايات كما حدث مع البدايات ام لا لكننا نذكِّر ـ لمجرد العلم فقط ـ ان الحملة الفرنسية على مصر استمرت 38 شهرا، وان قادة الحملة العسكرية الامريكية قالوا انهم قد يضطرون للبقاء في العراق لسنتين أو ثلاثة..
اللهم انا لا نسألك رد القضاء، ولكن اللطف فيه.
_________________

زهرة الياسم بارك الله فيك وجزاك الله خير
جزانا وإياكِ يا أخيتي شوق،وحفظ أمتنا الإسلامية،إنه على كل شيء قدير.
ط®ظ„ظٹط¬ظٹط©
شكرا على الموضوع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.