تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » تركت الصلاة ولم أمت حتى الآن

تركت الصلاة ولم أمت حتى الآن 2024.

السرّ في الصلاة أنها لاتغير العالم. الصلاة تغيرنا نحن.. ونحن نغير العالم."

.. كنتُ شابا صغيرا،وكانت التياراتُ تلاحقنا في كل مكان، في كل كتاب، في كل نقاش، كانت أيام الثانويةأصعب أيام، وهي أيام الشك والحيرة، والضياع والزوغان بين مدارس الفكر الوضعي،وأخذتني المدارس واستلهمت كبار مفكري العالم، فانقطعت مدة طويلة متبتلا بالفكرالألماني، ومع أني أقرأ من صغري بالإنجليزية، إلا أن تراجم الإنجليز لجوته، وتشيلر،وكانت، ونيتشه، وريلكه، أخذت بلبي، ثم تعرفت على شبنهاور فصقل فكر نيتشه في رأسي عنعنفوان القوة، وعدل البأس والجبروت، وكأنه دين يُبَشـّر به، أخذني نيتشه إلىمسوغاته، ومبرراته الصعبة التي كانت بمشقة تسلق جبال بافاريا، وكانت القمة هي ماأسماه مصطلحا "بالإرادة العلـّية"، ثم قذفني إلى شواطئ برتراند الرسل المتصوفالمادي الرياضي، وهـُمْتُ بعد ذاك بمدارس الفابية مع برناردشو في شقـِّهِ الجاد،وتبتلتُ مع إنجلز.. وأخذ الفكرُ يجرفني تماما وبعيدا عن الروح المتصلة بالسماء، حيثاليقين كل شيء، حيث الإيمان هو الشمس التي تسطع من بعيد، ولكنها أقرب لك من أي عنصرفي الكون، لأنها طاقة الوجود، فضعت كثيرا، وتجبرت بما سفحت من معلومات وكتب وظننتأني في تلك السن الباكرة قد جمعتُ سحرَ العلوم، وكأني خيميائي المعرفة.. ولم أعدأقرأ الكتبَ التي كنت أتوسدها في السابق حتى يغالبني النوم من أمهات الثقافةالدينية في التفسير والفقه الحديث، والأدب العربي.. ونفضتُ عني ما حسبت وقتها أنهعالمٌ عتيقٌ مليءٌ بغبار الغابر من التاريخ المعتم، إلى معارف تُشرق فيها أنوارُالعقل الإنساني متوهجا سواء في التاريخ أو المعاصر.
.. ثم تركتُالصلاة.
وكان مدرسي, يرحمه الله, في اللغة العربية رجل من غزة متدين، وقويم الفكر، ويؤثرني لميلي إلىالاطلاع، ولظهوري في اللغة، ثم توطدتْ بيننا صداقةٌ غير صفيّة، حتى انتزعتني أفكارالوجودية،والتي كانت أول مزالقي نحو كل الفلسفات، وصار يقف ضد هذا التوجه ويحذرنيكثيرا، ويقول لي لستَ في سنٍّ تحكم فيها على العالم، ولا على معارف أمتك ولا أممالآخرين.. ارجع إلى منبعك وانهل منه، وتقو، ثم رِدْ من كل منهل، وستجد أنك ستتذوقهوتعرف مكوناته، ولكن لن تدخله جوفك لأن ذائقتك المعرفية المتينة من بنيان تشربكالمعرفي لدينك وثقافتك ستمنعك من ذاك.. ولكني تماديت، وشعرت أنّ موجة مشرقة أخذتنيمنه بعيدا تاركا له كل بحار الظلام..
وأنا في طريقي المادي الجديد، بدأت في سنالسابعة عشرة أكتب لمجلة "الجمهور" اللبنانية، وكانوا يحسبوني شخصا كبيرا في بلاديويخاطبوني كما يخاطبون الكبار، وتـُرسل لي تحويلات النقد، ثم صرتُ أكتب في مجلةٍإنجليزيةٍ تصدر من البحرين، ودار اسمي تحت اسم المفكر المتحرر. وكانت كتاباتي تنضحعما في داخلي من معلومات وكتبٍ سفحتها سنوات لا أرفع رأسي من متن كتابٍ إلا إلىآخر، فأغوتني علوم الفلك والإنسان، والحفريات التاريخية، والطب، والجغرافيا.. وكنتأقرأ لعلماء أتأكد من كونهم غير روحانيين.. حتى لا يشوشوا علي بأفكار لا تثبتبالاستدلال المادي.. وانفتحت أمامي المجلاتُ والصحف، وصرت أكتب وأنا في الثانويةبغزارةٍ لمجلات وجرائد في لبنان, الكويت، إيران، البحرين، وأمريكا.. وانفتنتُبنفسي.. وأرى أستاذي، وأكاد أطل عليه بمكابرةٍ من علٍ.
"لماذا لم تعد تصلي؟" سألني أستاذي بحدة عميقة،فأجبته: "وهل تغير الصلاةُ العالم؟" فأج***ي إجابة طيرت عقلي، وخلخلت أركانَ نفسيالتي ظننت أنها مكينة.. "نعم الصلاة لا تغير العالم، ولكنها تغيرنا فنغير نحنالعالم".. ولكني صارعت أثر الجملة المريعة.. ومضيت فيغيِّي.
مرت سنوات، عدتللمنزل.. وكان بيتنا لا مهادنة فيه بالنسبة للصلاة وفي المسجد، كان أبي يجعل منخروجه للمسجد طقسا ضوئيا، ووالدتي توقظنا للصلاة قبل أن يصدح الأذان.. جرْجرتُ نفسيوعدتُ للصلاة، ولكن مكابرتي كانت في الداخل. ..
..ويوماً مرضتُ.. وقال لي الطبيب:" آسف يانجيب، ستموت لا محالة بعد تسعة أشهر"..
كنت في مدينة تاكوما الساحلية بأمريكا، ورحتُوحيدا إلى تلة خضراء، ورأيت المحيط الجبّارَ شاسعا أمامي.. ولا شيء إلا أنا والسماءوالماء.. والموت، والحياة. وسألت نفسي هل أغيرُ شيئا؟". ورحت متأملا، والدموع تنفرفتغطي شساعة المحيط بسرابيةٍ مهيبةٍ مبهمة.. وفجأة، قفزت تلك العبارة إلى رأسي: " الصلاة تغيرنا، ونحن نغير العالم".. وبسرعة ذهبت إلى حيث أقيم وأبرقت لأستاذي تلكالجملة بلا مقدمات ولا خواتيم.. وردّ علي. " لقد استردك الله.. عشمطمئنا."
أعظم صلاةأخذت بمجامعي كانت على ساحل الأطلسي في تاكوما الأمريكية.. وعرفت أن الله حق.. وعرفت ما معنى الحق.. وأن معناه النهائي في السماء لا في الأرض..
ولم أمُتْ.. حتىالآن

منقوووووووووووووووووووووول

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.