الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
من الواقع رحلة الأحلام
يا أولاد استيقظوا سوف نسافر، هكذا قالت لنا الوالدة عندما أيقظتنا في الصباح الباكر، هيا قوموا من فراشكم يا **الى لنستعد للسفر، قمنا من أسرتنا ونحن نقفز ونصيح هيه هيه سوف نسافر، أخذنا بعضنا البعض بالحضن ثم توجهنا إلى المطبخ حيث كانت والدتنا تجهز الشاي والفطور، سألناها إلى أين سنسافر وكيف اقتنع الوالد ومن أقنعه؟ ابتسمت ابتسامتها الرائعة وقالت مثلي مثلكم لا أعلم، هذا كل ما قاله لي صباحا قبل ان يذهب إلى عمله، وأضاف بأننا يجب أن نجهد أغراضنا، ونجهز قبل أن يحل الظلام، هيا أذهبوا الآن وافطروا وثم فليضع كل واحد منكم ما يحتاجه من أجل السفر، كم سنغيب، شهراً؟ صمتت وفكرت ثم أجابت صدق والله لا أعلم، لم يقل لي سأسأله عندما يتصل، كنا كخلية النحل في ذلك النهار، هذا يريد أن يأخذ الكرة وذاك يسأل إذ كان يستطيع ان يأخذ دراجته، تلك لعبتها، وكلنا ننادي ماما أين هذا وذاك، أين نضع الملابس.. قالت ضعوها قرب الشنطة وأنا أرتبها لكم، فعلنا ما طلبته منا، وانطلقنا إلى الخارج لنخبر أصدقاءنا في الفريج الذين لم يصدقوننا بداية، فنحن لم نسافر من قبل إلى أي مكان والكل يعرف ظروفنا المادية المتأرجحة بين الفقر الطبيعي والمدقع، فوالدي موظف بسيط في مؤسسة حكومية راتبه بالكاد يكفينا للطعام، وكنا بفترة الأعياد نعيش برفاهية أكبر من خلال زكاة بعض المحسنين، فتبتاع لنا الوالدة ملابس جديدة من السوق الشعبي وتطعمنا الأشياء التي نحبها كالحلوى مثلا، التي نأكلها فقط في المناسبات، إلى ان قررت أمي أن تعمل لتساعد والدي لأن عائلتنا أصبحت كبيرة، ثلاث فتيات وخمسة أولاد لشخص يعيش على راتبه فقط، فتعلمت فينا نحن الفتيات الخياطة، حيث كانت تقص كناديرها القديمة فتفصلها وتطرزها لنرتديها بفرح عارم ونختال بها بين صديقاتنا، ثم أصبحت تفصل أقمشة من السوق على مقاسها وتبيعها لجاراتها، فزاد دخلنا قليلا وبتنا نأكل تلك الحلوى كل شهر مرة بدل أن ننتظر الأعياد، لكن وبالرغم من هذا كله كان الفرح يخيم على منزلنا المتواضع الشعبي الذي ورثه والدي عن والده، وقام بتحسينه، وإضافة بعض الغرف إليه، كان حوشه يجمعنا، كنا نلعب كثيراً ووالدتي تجلس لترتاح وتنتظره على مقعد خشبي قديم عليه بساط من القماش مم** الأطراف، وعندما يصل كنا نركض جميعنا إليه لاستقباله بحفاوة كأنه عائد من السفر، كان هذا الشيء يفرحه جداً، كان يضحك معنا ويلاعبنا، لكن كان حزنه يبدو جليا في الصيف عندما يسافر عدد كبير من زملائه وأصدقائه في إجازة الصيف ويأخذون عائلاتهم، وكنا نطلب منه ان نسافر كما يفعل الجميع، كان يطأطئ رأسه ويقول: في العام المقبل ان شاء الله سنسافر، وكان يؤجلنا من عام لآخر إلى أن صدق بوعده ووصل اليوم المنتظر لذا كدنا لا نصدق.
أعدت والدتي الشنطة الوحيدة التي كنا نملكها والتي حوت كل أغراضنا وحوائجنا لأننا أساسا لم نملك الكثير، وعندما وصل إلى المنزل ركبنا السيارة وجلسنا ننتظر، كنا لا نصدق وخفنا ان يبدل رأيه فقال وهو يضحك.. انزلوا لن نسير الآن سننتظر غياب الشمس فالحر شديد، سوف تختنقون ثم يجب أن تساعدونا لكي نضع الأغراض في الصندوق، دخلنا نساعد والدتي فوجدناها قد وضعت أباريق الشاي والقهوة، قارورة غاز، طباخ صغير، أرز، وسكر، خبز، وجبن، حليب، وبن، سمن، وزيت قلت لها بغباء ستقومين بالطهي في الطائرة، نظرا إلى بعضهما البعض، ثم قالت: ومن قال لك إننا سنسافر بالطائرة؟ أجبت وكيف نسافر؟ بالسيارة قالت، ازداد تعجبي فقال أخي الصغير: نعم سيارة تطير وماذا يعني؟ عادت تلك النظرة الحزينة لتظهر بعيني الوالد ثم انحنى ليبلغ مستوانا وقال نحن سننتقل من بلد إلى آخر، وهذا هو السفر ليس فقط بالطائرة، قلنا أين ستأخذنا؟ أجاب بعد أن عدل وقفته كالطاووس فاتحا ريشه: سنذهب إلى صلالة ! عدنا إلى الصراخ والقفز “هيه يعيش بابا” هيا يا شياطين ضعوا الأغراض في السيارة ودعونا ننطلق على بركة الله ورعايته، تبعنا أصدقاؤنا وهم يلوحون لنا لآخر الشارع، جلسنا نلعب ونتضارب ونتشاجر ونصرخ إلى ان غلبنا النعاس ورقدنا لوقت طويل كما بدا لنا ثم استيقظنا عندما قال والدي هيا لقد وصلنا يا أولاد، دخلنا إلى منزل فيه غرفتان وصالة ومنافعهما مع مطبخ صغير، وحيث إننا كنا لا نزال نشعر بالنعاس فقد توجهنا إلى الأسرة ونمنا كل ثلاثة منا على فراش، في الصباح الباكر قمنا وخرجنا لنرى صلالة التي تكلم عنها الجميع أمامنا ورأينا صورهم فيها، لنجد بساطاً أخضر كبيراً يمتد لمساحة شاسعة مقابلنا حيث الجبل يطل علينا، دخلنا وقلنا لوالدي جميلة هي صلالة، هل رأيت الجبل الأخضر؟ قال نعم بالطبع، قلنا ومتى تأخذنا إليه، قال الآن نفطر ونذهب إليه، وصلنا إلى الجبل الجميل ونزلنا نركض على العشب الطري الندي، أحببنا ملمسه، نمنا وتدحرجنا عليه ثم رأينا أنهاراً صغيرة تجري المياه فيها بسرعة، ركضنا إليها نضع أقدامنا بها ونضحك، كانت قمة السعادة بالنسبة لنا، كانت والدتي تجهز اللحم والعيش في أماكن خاصة بهما ووالدي يجلس قربها مفترشا الأرض يقرأ الجريدة وينظر إلينا بين فينة وأخرى، وهو يقول انتبهوا من الماء لئلا تقعوا، جلسنا طوال اليوم هنا في هذا المكان الرائع ونحن لا نشبع من اللعب والاستمتاع بكل شيء، وبعد صلاة المغرب عاد والدي من المسجد القريب هناك مع شخص آخر وأولاده الذين لعبوا معنا قليلا قبل أن يركض الصغير الذي يبلغ الثانية من العمر وقطع الطريق لتأتي سيارة مسرعة نوعا ما وكادت تصدمه فما كان من أبي إلا أن رمى بنفسه أمامها ودفعه إلى الرصيف، صحيح أن سائق السيارة داس على الفرامل بقوة إلا أنها لم تقف مكانها وصدم والدي، صرخت والدتي والموجودون هناك ركضوا إليه وتجمعوا حوله قبل ان يحملوه ويضعوه في السيارة إلى المستشفى وهو فاقد الوعي، تم توقيف السائق من قبل الشرطة التي حضرت بسرعة للتحقيق بالحادث، كانت والدتي تهدئنا وتطمئننا ثم تبكي، ونحن نبكي معها، إلى ان خرج الطبيب وقال لا تخافوا الحمد لله لم يصب بأذى فقط بعض الرضوض الخفيفة و**ر بسيط بيده، سوف يبقى بالجبس لفترة لا تتعدى الأسابيع، هل نستطيع أن نراه؟ قالت والدتي، بالطبع تستطيعون لكننا سنبقيه الليلة هنا لنراقبه من باب الاطمئنان لأن هناك جرحاً في رأسه ونخاف من أي ارتجاج، إنه تدبير احترازي فقط، دخلنا مع والدتي التي ما أن رأته حتى عادت إلى البكاء فطمأنها قائلا سوف أطلب من الشرطة أن توصلكم إلى المنزل، فقالت لا أنا لن أتركك فقال ومن يبقى مع الأولاد؟ صمتت والدتي على مضض ثم بعد قليل دخل والدي الطفل الذي أنقذه والدي وشكراه، ثم قال الرجل أنا لن أنسى ما حييت الذي فعلته من أجل إنقاذ صغيري، أجابه والدي لم أفعل شيئاً لن يفعله أي إنسان آخر، فقال: لا قليلون من هم مثلك على كل حال، أنا كما فهمت أنك لست من هنا وزوجتك لا تعرف مكان سكنكم فهل تسمح لنا أن نأخذهم إلى منزلنا فيبيتوا ليلتهم عندنا حتى الغد لتخرج أنت بالسلامة فوافق والدي، ذهبنا إلى منزلهم لنجده قصراً كبيراً لم نرَ مثله في أحلامنا، زوجته كانت طيبة جداً معنا فأعطتنا ملابس نظيفة وغرفاً كبيرة واهتمت كثيرا بوالدتي وأحبتها، في اليوم الثاني ذهب بو محمد باكرا إلى المستشفى وأتى أيضاً بوالدي إلى منزله وأقام وليمة على شرفنا، ولم يقبل أن نعود إلى المنزل الذي وصلنا إليه فحلف أننا لا بد أن نبقى عندهم ضيوفاً معززين مكرمين، قبل والدي على مضض فهو لا يستطيع أن يقود السيارة لنعود إلى بلدنا لكنه طلب منه ان نسكن في الملحق حتى لا نزعجهم، وهكذا قضينا ثلاثة أسابيع معهم ومع أولادهم فأصبحنا أصدقاء ووالدتي أحبت السيدة وهي بدورها أحبتها، أما والدي وبو محمد فقد أصبحا لا يفترقان إلى أن انتهت العطلة وأراد والدي العودة لعمله، شعرنا بالحزن جميعنا نحن وهم، فقد عشنا أياماً ولا بالأحلام، كنا نزور المراكز التجارية ونأكل بمطاعم فخمة لم نرها في حياتنا، كما أن الحلوى على أنواعها موجودة عندهم كل يوم وليس في المناسبات فقط، في اليوم الأخير وصل والدي وصديقه الجديد بو محمد وهما يضحكان، سألنا والدي ما رأيكم يا أولاد هل تريدون العيش هنا دائما فقلنا بصوت واحد نعم يا أبي من فضلك، قال والمدرسة ورفاقكم سوف ننقلكم وتبتعدون عنهم.. قلنا هؤلاء هم رفاقنا ونحن نحبهم، قال حسنا سنبقى هنا دائما فقد طلبت نقلي إلى هنا وسأعمل مع السيد بو محمد في شركته وبإذن الله ستتبدل حياتنا للأفضل وهذا ما حصل فعلاً، إلا إنني نسيت ان أخبركم أهم شيء في قصتي، ألا وهو أن والدي كذب علينا فنحن لم نذهب قط إلى صلالة، لقد كنا طوال الوقت نعتقد ذلك إلا أننا لم نكن إلا في مدينة العين، والجبل الأخضر كان جبل حفيت.