قالت له زوجته لورا من يتصل بك الان؟ واي هاتف هذا؟ تذكر بوش ان هذا الهاتف تسلمه، فور توليه مهام منصبه كرئيس للولايات المتحدة، من هيئة امنية كبيرة و«مهمة جدا» في البلاد، وتذكر كذلك انها وصته بان لا يفارقه هذا الهاتف المؤمن ضد التنصت، اذ ان كل المتصلين عليه هم من «الأصدقاء المقربين»، وما يمكن ان يطلق عليهم اصطلاح «حلفاء اميركا».
التقط بوش الهاتف، ووجد الاتصال قادماً من الشرق الاوسط، فقالت له زوجته لماذا لا ترد، انه يتصل من فترة طويلة، ثم فتح بوش الخط ليجد المتصل.. صدام حسين الرئيس العراقي!
***ئط المنطقة
تلعثم بوش في البداية، وقال في سرعة بالغة: من اعطك هذا الرقم وكيف توصلت اليه.. انه لا يعرفه الا المقربون من قلب واشنطن؟!
لا تسأل من اعطاني او كيف حصلت على رقم هذا الهاتف قال صدام لكن المهم اريد ان اسألك انت: لماذا تفعلون بنا هكذا ولماذا تحشدون جيوشكم لضربنا، اولم يكفكم ما حدث في العاصفة السابقة، التي لم تترك قاعدة صواريخ او مصانع تسليح او منشآت مدنية وخدمية او جسور الا واقتلعتها؟
استرد بوش حيويته الذهنية، وبدأ في ترتيب افكاره وقال في ثقة: «ابا عدي» لا تنفعل هكذا، وخذ الامور بواقعية شديدة، واعد امام مخيلتك شريط الاحداث، منذ العام 1990 وحتى الان، وستجد على الفور انك الذي اوقعت نفسك في هذا المأ**، واعطيتنا الفرصة لحصارك، بعد ان حاولت ان تلعب ب***ئط المنطقة، وتعدلها وفق مصالحك، فوقفنا ضدك بشدة، حتى لا تكون سابقة في العالم العربي، ويهجم القوي فيكم على الضعيف، فتصبح الخطوط والقواعد التي وضعناها للمنطقة لاغية.
لكن دولتكم..
لسنا دولة.. رد بوش بحدة وغضب على كلمة الرئيس العراقي، وقال: نحن امبراطورية، وامبراطورية فريدة من نوعها، تستطيع السيطرة على كل ما يجري في كافة بقاع العالم، بفضل قوتنا العسكرية الكبيرة واقتصادنا الجبار، واصدقائنا المنتشرين في جميع انحاء المعمورة.
نحن اعظم امبراطورية في التاريخ، يواصل بوش حديثه، فامبراطوريتنا لا يوجد لها منافس، ولن نسمح بأن يوجد لها منافس، سواء بالاقتناع او بالعصا الغليظة المتأهبة دائما لوضع الامور في نصابها الصحيح.
لكن بلادكم لا تتحلى بأخلاق الامبراطوريات العظيمة، يقول صدام، فسياستكم لا يوجد بها عدل وتمارس العنف ضد الابرياء، وتساندون قوى الظلم والاحتلال، وتحاصرون الشعوب وتضيقون الخناق على حياتها، وتستمتعون بعذابات الاخرين.
ألم تقرأ آخر استطلاع كبير للرأي ـ يواصل صدام ـ شارك فيه 38 الف شخص واشرفت عليه مادلين اولبرايت وزير خارجية سلفكم بيل كلينتون، وكشفت نتائجه ان العامين الاخيرين شهدا تنامياً في مشاعر السخط على السياسات الاميركية حتى في الدول التي تعد من حلفاء واشنطن، مثل تركيا حيث هبطت نسبة الاشخاص الذين يحملون صورة ايجابية عن الولايات المتحدة 22 نقطة لتصل الى 30%، وفي با**تان تراجعت النسبة 13 نقطة الى 10%، وفي مصر عبر 69% من الاشخاص الذين سئلوا عن رأيهم في بلادكم عن نظرة سلبية الى الولايات المتحدة، وكذلك 75% من الاردنيين؟
جيوب الشعوب
نعم قرأته جيدا ـ يقول بوش ـ ويضيف: لكن يبدو انك لم تقرأه جيدا، اذ ان الاستطلاع نفسه، يظهر ان غالبية شعوب العالم، تقبل بشغف على ما تنتجه الولايات المتحدة من افلام سينمائية وبرامج تلفزيونية وموسيقى، وان هناك شبه اجماع على اهمية الاستفادة من العلوم والتكنولوجيا الاميركية.
هذا هو المهم، يزيد بوش: اميركا لا تريد قلوب شعوب العالم، بل تريد عقولهم وجيوبهم، فالأول يسهل لنا امركة هذا الكون وجعله يدور في الفلك الاميركي، والثاني يفتح امام الاقتصاد الاميركي اسواقاً جديدة لتزداد رأسماليتنا قوة، وبلغة العالم الثالث توحشا.
اما بالنسبة لحصار الشعوب، يضيف بوش: فان السياسة لا تعرف الاخلاق، ولو كانت هناك امبراطورية اخرى في العالم الان، لفعلت مثل ما نفعل، ونحن استعملنا السلاح النووي في الحرب العالمية الثانية، ومستعدون لاستخدامه الان وغدا وفي اي وقت ضد من يهدد مصالحنا.
الم تقرأ ـ يقول بوش ـ الاستراتيجية الاميركية الجديدة، التي اعتمدتها فور استلامي الرئاسة، التي تتضمن استخدام الولايات المتحدة اسلحة غير تقليدية، اي اسلحة نووية، ضد من يعتدي عليها او على قواتها او على الدول الحليفة لها وان استخدام السلاح النووي من جانبها يمكن ان يتم كعملية وقائية، اي قبل ان تتلقى اميركا اية ضربة.
يقول صدام: نعم قرأته وهذا الامر يبعث على القلق، اذ ان هذه التوجهات وعدم وجود ضوابط تحكم استخدام اميركا للقوة، سوف يثير مشاكل في كافة ارجاء الكون ويهدد الامن والاستقرار العالمي، وليس هذا فحسب، بل ان السياسات العدائية تجاه الدول العربية والاسلامية، مثل العراق وفلسطين، يمكن ان تؤدي الى نشوب صراع للحضارات وهذا امر مخيف.
ضحك بوش ضحكة عالية جدا، افزعت زوجته التي كانت الى جانبه من شدتها، وقال: اي صراع واي حضارات؟ هذا الامر يحدث بين القوى المتوازنة، اما واقع الحال الان ليس كذلك، فنحن متفوقون عليكم في القوة ونسبقكم في العلم والمعرفة والتكنولوجيا الحديثة، ولدينا اقتصاد متنوع وقوي، واستقرار سياسي وتداول للسلطة وديمقراطية حقيقية، غير ديمقراطية الـ 100%.
لا يمكن ان يحدث صراع حضارات ابدا، فلا شيء لديكم يمكن ان يدخل في صراع معنا.. انتم كدول عربية واسلامية، تستهلكون مما نصنع، وتستخدمون ما ننتجه، وتنهلون من علمنا، واغلبكم يأخذ رغيف خبزه من الولايات المتحدة، فكيف اذاً يحدث صراع حضارات؟! ليس هذا فحسب ـ يقول بوش ـ بل ان اغلب دولكم «تتوسل» الينا كل يوم لنخفف عنها صراع دولة صغيرة مثل اسرائيل، والبعض الاخر يستنجد بنا لنحميه من «اولي القربى»، كما ان الولايات المتحدة، وبشكل غير معلن في احيان كثيرة، تتدخل لتصفية الاجواء بين ***اء واعراق البلد الواحد في امتكم.
اسطورة ايكاريوس
رد صدام بغضب على كلام بوش وقال: اذا كان هذا هو مفهومكم لحضاراتنا، فهو مفهوم قاصر وناقص، فالحضارة ليست في بناء طائرة او دبابة او في جهاز كمبيوتر، وانما هي مساهمة في التراث الانساني والثقافي العالمي.
ولك ان ترجع لكتب التاريخ لتعرف، ان مصدر التقدم الذي يعيش فيه الغرب، الحضارة الاسلامية، التي اضاءت بنورها ظلمات اوروبا، التي نهلت من علومنا وتراثنا لتعيد به صياغة حاضرها ومستقبلها.
ان العالم العربي والاسلامي ـ يقول صدام ـ اصبح على قناعة بأن الولايات المتحدة قد اصابتها اسطورة يونانية قديمة تعرف باسم «ايكاريوس» وهو الشخص الذي صنع لنفسه جناحين من شمع ليطير بهما، ولما حلق دفعه غروره للارتفاع اكثر حتى اقترب من الشمس فذاب الشمع فسقط ارضا دون ان يحرك ساكنا.
دعك من هذا ـ يرد بوش ـ وعلى العالم العربي، ان يدرك ان اطروحة صموئيل هنتنغتون عن «صراع الحضارات» لم يكن يريد القاءها في ملعب السياسة، بل اراد ان تعيش في عالم الفكر والثقافة، لكنكم وكالعادة اخذتموها واعطيتموها اهتماما كبيرا مثلما يحدث مع كل ما نطرحه، وتشبثتم بها متصورين ان هذا سوف يعطي تفسيرا لعجزكم امام قوتنا ويمنحكم صك غفران عن تخلفكم عن الالتحاق بركب التقدم العالمي.
اذا لم يكن هناك صراع حضارات يتساءل صدام، فلماذا اذن هذا الحصار الخانق على العديد من الدول العربية والاسلامية ومن بينها العراق، والذي ادى وفق احدث احصاءات المنظمات الدولية الانسانية، لوفاة طفل عراقي كل 6 دقائق، ليصل عددهم الى 900 الف طفل متوفى لم تتجاوز اعمارهم خمسة اعوام خلال عشر سنوات كما ادى هذا الحصار الى ترك ربع مليون طفل لمقاعد الدراسة بحثا عن عمل، في حين يعاني قرابة ثلاثة ملايين طفل من الذين يواصلون الدراسة من ضعف الرعاية الصحية وانتشار الامراض وفقر الدم والاورام الخبيثة.
اذا لم يكن فعلا صراع حضارات وعداء للعرب والمسلمين، فلماذا هذا التحيز الى جانب العدو الصهيوني الذي يواصل الارهاب والدمار والعنف والمجازر ضد شعب اعزل، في حين انكم تتشدقون ليل نهار بحقوق الانسان والديمقراطية، التي اعتمدتم اخيرا مبادرة لنشرها في العالم العربي من اجل «اصلاحه»؟! دعمنا لاسرائيل ـ يقول بوش ـ اعتقد انه لا يدخل ضمن الصراع الحضاري، او ما يحاول البعض توصيفه بالتحالف «المسيحي الصهيوني» ضد الاسلام، وانما يندرج في اطار المصالح السياسية والاستراتيجية للولايات المتحدة، التي تدرك ان اسرائيل هي الحليف الاوثق لها في الشرق الاوسط.
نعلم ان دعمنا لاسرائيل قد كلف منذ عام 1973 وحتى الان نحو الف و600 مليار دولار، كما اننا نعلم ان الجمعيات الخيرية اليهودية والمنظمات المؤيدة للدولة العبرية، وهبت اسرائيل ما يصل الى 60 مليار دولار، وهو هدر للاقتصاد الاميركي، لكن الضرورات كما في الميدان الديني تبيح المحظورات، هي كذلك واكثر في المجال السياسي.
لقد تأخر الوقت واريد ان اعرف ماذا تريد بالضبط؟ سأل بوش صدام فأجاب: نريد السلام ولا نريد الحرب، نريد ان تترك بلادك شعبنا يعيش ولا تخنقه بالعقوبات.. نريد قليلا من الهدوء في الخليج.
اننا شعوب تحب السلام ـ يقول صدام ـ ومن هذا المنطلق لا نُكِن عداوة لكم او لبلادكم، بل نقدركم ونقدر دوركم العالمي، وعلى هذا الاساس انني اوجه الدعوة لكم لتزور العراق وتعرفه على الطبيعة وترى الفرات وتسبح فيه.
اجابه بوش: سوف ازور العراق، لكن لن اسبح في الفرات، بل سوف اتوجه على الفور الى الموصل وكركوك، ففي هاتين المنطقتين رائحة احبها كثيرا، وتحبها ايضا الشركات التي ساندتني في الوصول الى البيت الابيض.. انها رائحة النفط!! بالتأكيد الحوار السابق لم يحدث في الواقع، لكننا نجزم بأنه لو اتيحت الفرصة لمناظرة بين الرجلين لما خرجت عن هذا الافق، فكلاهما يحمل افكار حضارتين وثقافتين مختلفتين، ولا يمكن التقريب بينهما على اي حال، اذ ان اميركا لا ترى سوى نفسها وترتدي حالياً «جناحي ايكاريوس»، فيما العالم العربي والاسلامي، لايزال يتخبط في ازماته وكبواته التي كان بعضها بفعل المخططات الغربية واغلبها من صنع يديه.