تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » عالم الإختراق الكبير والقرد الجديد .!!!

عالم الإختراق الكبير والقرد الجديد .!!! 2024.

  • بواسطة
قضايا و اراء
43121 ‏السنة 129-العدد 2024 ديسمبر 28 ‏16 ذى القعدة 1445 هـ الثلاثاء

عام الاختراق الكبير
بقلم : فهمـي هـويـــدي " كاتب مصري "

لا يكن المرء شعورا بالحنين أو الأسف حيال ذلك العام الذي نوشك أن نفارقه‏,‏ لأنه لم يكن سوي شاهد جديد علي زمن التراجع العربي‏.‏ مع ذلك فأخشي ما أخشاه أن نترحم عليه في مقبل الأيام‏,‏ لأن السحب التي تلوح في الأفق توحي بأننا مقبلون علي سنة كبيسة أخري‏,‏ إن لم تكن مخيفة أيضا‏.‏

‏(1)‏
ونحن نستعد لاستقبال هذا العام‏(2004)‏ خرجت علينا مجلة الايكونوميست البريطانية الرصينة بتحليل خلصت منه إلي أن السنة لن تكون مملة‏,‏ في حين أن الصينيين تفاءلوا بها‏,‏ لأنها في تقويمهم تعد سنة القرد ولديهم من الأسباب مايجعلهم يستبشرون بها‏,‏ أما الهنود فقد كانوا أكثر حذرا‏,‏ حيث لاحظوا أن كوكب زحل يسير في ذلك العام باتجاه معا** للشمس‏,‏ وهو ما اعتبروه مؤشرا سلبيا‏.‏

وقتذاك‏(‏ في‏1/13)‏ قلت انني لا آخذ مثل هذه التنبؤات علي محمل الجد‏,‏ لكنني لم أخف شعورا بالتوجس‏,‏ فقلت ان رياح السنة الجديدة قد تكون لنا أو علينا‏,‏ ولأن حالنا كما تعرف فكفة الاحتمال الثاني أرجح وإذ انقضي العام‏,‏ فانني اعترف بأن شكي في النبوءات التي أشرت إليها لم يكن في محله‏,‏ خصوصا إذا تعاملنا مع المصطلحات التي استخدمت في وصف العام بالمفهوم الذي تعنيه في الخطاب العربي‏,‏ فما ليس مملا في ظل البرود الانجليزي هو في الأغلب كارثي عندنا‏,‏ أما كل مايقترن بالقرد أو بكوكب زحل فانه يغدو في خط***ا الدارج مصدرا للقبح والتعاسة‏,‏ وإذ أسجل بانني مؤمن تماما بمقولة كذب المنجمون ولو صدقوا فان الأمانة تقتضي الإقرار بأن أولئك الأبالسة ـ هذه المرة الأقل ـ صدقوا ـ لماذا؟

قبل أن أجيب ألفت الانتباه إلي ان المشهد العربي يحتمل قراءات عدة‏,‏ تختلف باختلاف زاوية الرؤية والمعيار الذي يستخدمه القاريء في القياس والتقييم‏,‏ غير أنني أزعم بأن قراءة المثقفين الوطنيين لاحداث العام المنصرم متطابقة إلي حد كبير‏,‏ وهذا ليس مجرد استنتاج من عندي‏,‏ ولكنه بالدرجة الأولي انطباع قوي‏,‏ هو حصيلة خبرة شخصية وحوارات اتصلت علي مدار العام مع شرائح مختلفة من تلك الأطياف الوطنية‏,‏ ليس في مصر وحدها‏,‏ وإنما في العالم العربي الذي توافرت فيه فرص ومناسبات عديدة‏,‏ أتاحت لي ولغيري إمكانية اجراء ذلك التواصل في مشرق العالم العربي ومغربه‏.‏

‏(2)‏
إذا سألتني عن أهم قسمات عام‏2004‏ فردي ان العلامة الأبرز لذلك العام تتمثل في تقدم طوابير المهزومين وارتفاع أصواتهم بشكل صريح وفج‏,‏ وعلي نحو غير مسبوق‏,‏ أدري أن هؤلاء موجودون في كل مجتمع وكل زمان‏,‏ لكنني أزعم أنهم في العالم العربي ـ خلال نصف القرن الأخير ـ كانوا يتوارون أحيانا‏,‏ ويتحدثون بلغة ملفوفة وغير مباشرة في أحيان أخري‏,‏ وكانت الظروف تفرض عليهم طول الوقت الالتزام بحدود الاحتشام وممارسة مايمكن أن نسميه بالحياء الوطني‏.‏

هذه الصورة اختلفت ـ أو انقلبت ـ تماما خلال العام الذي نودعه‏,‏ فالمهزومون كشفوا الأقنعة‏,‏ وتخلوا عن الحياء والاحتشام‏,‏ وأصبحوا يتحدثون بوجه مكشوف وبصراحة مدهشة‏,‏ وبالتالي فإن ترويجهم للهزيمة ودفاعهم عن الاستسلام والانبطاح‏,‏ أصبح جزءا من أدبيات المرحلة‏,‏ وهم لم يكتفوا بذلك‏,‏ وإنما انتقلوا من التسويغ والتبرير إلي الهجوم الشرس علي مختلف القيم النبيلة في مجتمعاتنا‏,‏ وأهم الثوابت التي يقوم عليها بناء الأمة‏,‏ هكذا جهارا نهارا‏,‏

خلال كتابات عدة نشرت في الأسابيع التي خلت أشرت إلي نماذج لهذا اللامعقول الذي طفا علي سطح العام من حيث لانحتسب‏,‏ ولكن لا بأس من التذكير ببعض الرسائل التي تمثل فعلا فاضحا من الناحية السياسية‏,‏ التي جري بثها خلال العام‏.‏

من كان يتصور مثلا أن يجري الدفاع عن الاحتلال الأمريكي لبلد عربي بالكامل مثل العراق‏,‏ وبأن يوصف ذلك الاحتلال بأنه تحرير؟ ومن كان يتصور أن يجرؤ نفر من العرب علي هجاء المقاومة الوطنية‏,‏ وأن تعلو بعض الأصوات متهمة إياها بأنها ارهاب‏,‏ ومدعية بأن المقاومين ليسوا سوي إرهابيين حينا و حربجية في حين آخر؟ ومن كان يتخيل يوما ما ان تدبج بعض المقالات في الكيد والازدراء بما سماه أحدهم إمارة حماس وأن يجري التطاول علي هيئة علماء المسلمين في العراق‏,‏ بحيث يوصفون بأنهم هيئة علماء الخاطفين؟ ومن يصدق أن يقول قائل في مصر ـ أكرر في مصر ـ أن أهم بلدين في علاقاتها الخارجية هما الولايات المتحدة وإسرائيل‏,‏ أو يقول إننا يجب ألا نسمح أبدا للعلاقات العربية أن تؤثر سلبا علي العلاقات مع إسرائيل‏(‏ في دعوة غريبة لرفع شعار إسرائيل أولا‏)‏ ـ أو أن يدعو داع إلي ضرورة التخلص من النظر بشكل سلبي إلي اسرائيل ولأي علاقة معها؟ ـ ومن كان يصدق ان يطرح للمناقشة مبدأ الاستعانة بالأمريكيين لاحداث التغيير الذي ننشده إذا عجزنا عنه‏,‏ في استهبال مريب‏,‏ يريد لنا أن نقتنع بأن الولايات المتحدة أصبحت منظمة خيرية مشغولة بإغاثة المقهورين وتطييب خواطر المعذبين‏.‏

حتي ثوابت الأمة‏,‏ وعلي رأسها الانتماء إلي العروبة والإسلام‏,‏ لم تسلم من الهجاء‏,‏ والازدراء‏,‏ ممن أرادوا تجريح كل عناصر العافية والانقضاض عليها‏,‏ احتماء بشعار حرية الرأي والاجتهاد‏,‏ إذ أراد المهزومون لموالاة أعداء الأمة وللعمالة أن تكون مجرد وجهة نظر واجتهاد مخالف لما يجري التعارف عليه‏,‏ وهو ذات المنطق الذي يسوغ الدعارة بحسبانها وجهة نظر مغايرة في المسألة الأخلاقية‏.‏

‏(3)‏
في شهر نوفمبر الماضي صدر في بيروت كتاب بعنوان ثقافة الاستسلام ألفه زميلنا الأستاذ بلال الحسن‏,‏ وفيه قام بتعرية وفضح خمسة من الكتاب العرب‏,‏ الذين يقفون ضمن الصفوف الأولي لطوابير المهزومين‏,‏ ممن يدعون إلي الانبطاح ويسوغون موالاة أعداء الامة والتفريط في قضاياها وحقوقها‏.‏

فضلا عن فضح المواقف وكشفها ـ وهذا أمر غاية في الأهمية ـ فان الكاتب ينبه إلي أمرين آخرين‏,‏ أولهما أن ظاهرة مثقفي المارينز أصبحت ذات طابع عربي وليس قطريا‏,‏ بمعني أولئك المارينز أثبتوا وجودهم في أغلب الاقطار العربية‏(‏ الخمسة الذين تحدث عنهم بلال الحسن يتوزعون علي أربعة أقطار مختلفة‏).‏

الأمر الثاني ان عناصر هذه الظاهرة أصبحوا يحتلون مواقع بارزة في ساحة الاعلام العربي‏,‏ الأمر الذي يوفر لهم منابر تمكنهم من مخاطبة الرأي العام وبث دعاواهم والترويج لها‏.‏

في زمن الان**ار‏,‏ لا غرابة في أن تصبح ثقافة الاستسلام معلما بارزا في لغة الخطاب الاعلامي العربي‏,‏ من ثم ففضلا عن اختراق مجموعة المارينز للمنابر الاعلامية المختلفة‏,‏ فان عناصرها لم تكتف بذلك‏,‏ وإنما عمدوا إلي تأسيس منابر أخري احتشد فيها نفر منهم‏,‏ وحولوها إلي محطات ارسال لبث تلك الثقافة رفعت لافتات مختلفة‏,‏ بحثية واستراتيجية وليبرالية‏..‏ إلخ واضافة إلي بعض المراكز التي ادعت اهتماما بالمجتمع المدني‏,‏ فان العام المنصرم شهد تأسيس أكثر من صحيفة ومجلة‏(‏ أحدثها صدر في شهر نوفمبر الماضي‏)‏ كانت ثقافة الاستسلام محورا رئيسيا وقاسما مشتركا بينها‏.‏ ولأن الأمريكيين لايخفون مايفعلون ويكشفون أغلب أوراقهم ولو بعد حين‏,‏ فانهم هم الذين أعلنوا علي لسان وزير دفاعهم دونالد رامسفيلد ان الادارة الأمريكية تخوض ايضا معركة حرب الأفكار في العالم العربي والاسلامي‏,‏ وهم الذين أعلنوا علي لسان متحدث باسم السفارة الأمريكية بالقاهرة عن اتجاههم إلي انشاء وتمويل صحف ومنابر اعلامية في بعض العواصم العربية‏,‏ ولم يخفوا أنهم يمولون قناة الحرة‏!‏ ـ التليفزيونية‏,‏ واذاعة سوا ومجلة هاي ـ بحسبانها ضمن الاسلحة المستخدمة ل**ب تلك الحرب‏.‏

هذا كله ليس مفاجئا‏,‏ وإنما هو استنساخ أو طبعة جديدة من تجربة المخابرات المركزية في أثناء الحرب الباردة‏,‏ ومحاولاتها منذ الحرب العالمية الثانية خوض معركة الأفكار ضد الاتحاد السوفيتي‏,‏ وهو ما أثبتته وكشفت النقاب عن أسراره الباحثة البريطانية فرانسيس سوندرز في كتابها المهم الذي صدر تحت عنوان الحرب الباردة الثقافية ـ‏(‏ ترجمه إلي العربية الاستاذ طلعت الشايب‏).‏

برغم ان الهدف واحد والأساليب واحدة‏,‏ إلا أن الحرب الثقافية الراهنة تميزت بأمرين‏,‏ الأول أن حرب الأفكار ضد الاتحاد السوفيتي كانت تشن من خارجه‏,‏ بينما الحرب الموجهة ضد العالم العربي والاسلامي ينطلق جزء كبير فيها من قلب عواصمه‏,‏ الأمر الثاني أن الذين كانوا يقودون تلك الحرب كانوا يتخفون ويتسترون ويوصلون رسالتهم بأساليب ملتوية وغير مباشرة‏,‏ أما في زماننا فالمارينز ـ كما رأيت ـ لم يقصروا في كشف وجوههم والاعلان عن أهدافهم الحقيقية بغير مواربة‏,‏ وبغير حياء‏!‏

‏(4)‏
ألا يلفت نظرك كم المؤتمرات والمنتديات التي عقدت خلال العام عن الاصلاح والتغيير في العالم العربي؟ ـ وألا تلاحظون حجم الحضور الأمريكي في تلك الملتقيات؟ وأليس مستغربا أن يتجاوز الحضور الأمريكي حدود المشاركة‏,‏ بحيث يتولي الأمريكيون تنظيم بعض تلك المؤتمرات وإعداد جدول أعمالها وتحديد المدعوين إليها والمشاركين في حواراتها؟ ـ وهل يصدق عاقل ان الولايات المتحدة جادة في دعوتها إلي اصلاح حال العالم العربي؟ ـ وهل يتصور مخلوق أن الأهداف الأمريكية من الاصلاح يمكن ان تتطابق مع أهداف الامة العربية والاسلامية؟

كثيرة هي الاسئلة التي تثيرها صرعة المنتديات والمؤتمرات التي حلت بالعالم العربي علي مدار العام‏,‏ حتي أصبحت منافسا لمهرجانات السينما والغناء والطرب‏,‏ التي صارت وباء لم يستثن عاصمة في أمة العرب‏,‏ وهي أسئلة ليست للاستفهام فحسب‏,‏ ولكن بعضها تعبير عن الاسترابة والبعض الآخر استنكاري بامتياز‏.‏ وما يشجعني علي طرحها ليس توالي انعقاد تلك المؤتمرات وطبيعة المنظمين لها‏,‏ والمشاركين فيها‏,‏ وإنما أنني كنت شاهدا عليها‏,‏ وحاضرا في بعضها ومن ثم مستمعا لما قيل في ذلك البعض علي الأقل‏.‏

لقد اعتذرت عن عدم حضور مؤتمرات كانت الرائحة الأمريكية تفوح من جدول أعمالها‏,‏ وشاركت فيما ظننت أنه مبرأ من تلك الشبهة‏,‏ لكن تجربتي أقنعتني بأن الأجندة الأمريكية مقررة علي الجميع‏,‏ وانها اذا كانت قد أفصحت عن نفسها في بعض الملتقيات‏,‏ فانها حاضرة بقوة في خلفيات وأوراق وتوصيات الملتقيات الأخري‏,‏ لااستثني من ذلك بعض المؤتمرات التي تعرضت للشأن الاسلامي‏,‏ والتي سمعت فيها كلاما غريبا وتأويلات شاذة‏,‏ لم تكن سوي عرض للاسلام الأمريكي الذي يراد تسويقه في المرحلة الراهنة‏,‏ وهو ما قلته صراحة في تعقيب اعتراضي اضطررت إليه في واحد من تلك المؤتمرات‏,‏ عقب محاضرة باهتة قدمها أحد أكاديميي المارينز عن الإسلام والتغيير‏.‏

حين يدقق المرء في أوراق وتوصيات تلك السلسلة من المؤتمرات والملتقيات يستحضر علي الفور الحديث الأمريكي المتكرر عن الشرق الأوسط الكبير وال***ئط التي يراد رسمها فيه‏,‏ والنموذج التركي الذي يراد تعميمه عليه‏,‏ ويدرك أن حرب الأفكار هي المقدمة الضرورية لمرحلة اعادة رسم ال***ئط‏,‏ واننا جميعا ندفع لكي نسير في درب محدد‏,‏ له مقاصد وأهداف واضحة‏,‏ يستطيع أي قاريء لمشروع القرن الأمريكي أن يقف علي حقيقتها دون عناء‏.‏

‏(5)‏
عملية ترتيب الأوراق وتوفيق الأوضاع التي استمرت طيلة عام‏2004,‏ يفترض أن تؤتي ثمارها في عام‏2005,‏ ان شئت فقل ان ما زرعناه في العام المنقضي سوف نجني حصاده في العام الجديد‏,‏ وهذا بالتحديد مصدر القلق والخوف مما ستأتي به أو تسفر عنه الأشهر القادمة‏,‏ لأن الذي زرعناه ـ في حده الأدني ـ ليس الذي تمنيناه‏,‏ وانما الذي تمناه غيرنا وتحري به مصالحه‏.‏

من وجهة نظرهم‏,‏ هي فرصة تاريخية حقا‏,‏ فالان**ار العربي بلغ مداه‏,‏ والاختراق في أعلا موجاته‏,‏ والشقوق تملأ جدران الأمة‏,‏ ومفردات الانصياع ومشتقاته معلقة علي تلك الجدران‏,‏ من المحيط إلي الخليج‏,‏ من ثم فالظرف موات تماما لاحداث التفكيك واعادة التركيب وانجاز ال***ئط الجديدة‏,‏ بدءا بتصفية قضية فلسطين وانتهاء ببسط الهيمنة علي جنبات الشرق الأوسط الكبير‏.‏

لسنا بصدد قدر مكتوب بطبيعة الحال‏,‏ ولكنه مجرد سيناريو مفترض إذا قدر للأمور ان تمضي في الاتجاه الذي رسم لها‏,‏ اما اذا اختلت المسيرة وتغير الموقف في العراق في غير صالح الاحتلال مثلا‏,‏ فان ذلك السيناريو سوف ينقلب رأسا علي عقب‏.‏

وأقولها صراحة إذا تمكن الأمريكيون من العراق‏,‏ وثبتوا فوق ربوعه رايات الانصياع والتسليم‏,‏ فإن شهية رعاة الحلم الإمبراطوري الأمريكي سوف تنفتح لفرض المزيد من الركوع والانبطاح علي العالم العربي‏,‏ والإقدام علي المزيد من المغامرات في العالم الاسلامي‏.‏
حينئذ سوف يقع المحظور‏,‏ ونترحم علي عام القرد‏!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.