المبحث الثالث عشر: تعليم الجاهل والرفق به..
الجهل داء عضال، وإقدام الجاهل على المعصية غير مستنكر، لذلك يجب على المجتمع أن يتعاون أفراده على تعليم بعضهم بعضاً، ما يجهلونه من أمور دينهم ومعاشهم، حتى تقوم الحجة عليهم، ويكفوا عن اعتداء بعضهم على حقوق بعضهم.
والعالم الذي يكتم علمه عن المحتاج إليه معرض للعنة الله..
كما قال سبحانه: (( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ (159) إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ )). [البقرة:159ـ160].
وتوعد سبحانه كاتم العلم بالنار، وأن الكتمان، لا يحصل إلا ممن استبدل الضلال بالهدى الذي آتاه الله ليهتدي به، فحرم نفسه منه وحرم الناس..
لأن في كتمان العلم خفاء الحق على الناس والتباسه بالباطل، وذلك من أسباب الخلاف والشقاق المؤديين إلى فقد الناس الطمأنينة والأمن.
قال تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ )). [البقرة:174ـ176].
والمجتمع الذي يتعلم أفراده دين الله ويفقهونه، لا سيما ما يتعلق بفروض العين التي تجب على كل فرد بعينه، وفروض الكفاية التي تقوم بها طائفة كافية منه، هو مجتمع خير..
ومن أهم ما يدخل في ذلك الخير أمن المجتمع من اعتداء بعض أفراده على بعض، بسبب فقههم في دين الله.
أما المجتمع الجاهل الذي لا يدري أفراده أحكام تصرفاتهم أحلال هي أم حرام؟ فإنه مجتمع سوء وبلاء..
ومن السوء الذي يصاب به المجتمع، فقده الأمن لتعدي بعض أفراده على بعض، بسبب جهلهم في الغالب.
وقد تضمن هذا المعنى حديث معاوية، رضي الله عنه، يقول:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله يعطي، ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله ). [البخاري (1/25ـ26) ومسلم (3/1524)].
فدل الحديث بمنطوقه على أن من فقهه الله في الدين فقد أراد به الخير، ودل بمفهومه أن الذي لم يفقهه في الدين، فهو محروم من الخير واقع في الشر.
وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحرص أشد الحرص على نشر العلم وقيام سامعه وشاهده بتبليغ من غاب عنه، وبخاصة ما يتعلق بحقوق الناس التي يأمنون بسلامتها من الاعتداء عليها، ويخافون إذا اعتدى عليها معتد.
روى أبو بكرة رضي الله عنه:
عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ( …فإن دماءكم وأموالكم.. وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هكذا، في شهركم هذا، وستلقون ربكم، فيسألكم عن أعمالكم، فلا ترجِعُنَّ بعدى كفاراً… يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا ليبلغ الشاهد الغائب، فلعل بعض من يبلغه يكون أوعى له من بعض من سمعه )
ثم قال: ( ألا هل بلغت؟ ). [البخاري (2/191) ومسلم (3/1305) وما بعدها..].
وإذا كان الواجب على العالِم أن يعلم ولا يكتم ما يجب عليه بيانه للناس، فإن الواجب على الجاهل أن يتعلم ويسأل أهل العلم عما يجب عليه عمله.
قال تعالى: (( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ )). [النحل:43].
وينبغي أن يكون العالم رفيقاً بالجاهل في تعليمه، مرغباً له فيه بالوسائل المتاحة التي تجعله يقبل عليه ويحبه، بخلاف ما إذا كان غليظاً شديداً، فإن المتعلم ينفر منه ولا يستفيد من علمه ولا يحبه المحبة التي تجعله يقتدي به.
والقدوة في رفق العالم بالجاهل، هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي علم أصحابه كيف يعاملون الجاهل.
تأمل في ذلك قصة معاوية بن الحكم السلمي، رضي الله عنه، ونفوره من أسلوب تعليم بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم..
وتأثره بتعليم الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك الأسلوب النبوي العالي، الذي جعل معاوية يزيد إقبالاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسؤاله عن بعض الأمور التي كان يجهل حكمها.
قال معاوية، رضي الله عنه:
بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ عطس رجل من القوم..
فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم..
فقلت: واثكل أماه، ما شأنكم تنظرون إليّ؟
فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني، لكني سكت، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فوالله ما نهرني ولا ضربني ولا شتمني..
قال: ( إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن )..
أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. [مسلم (1/381ـ382)].
ثم أخذ يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بعض الأمور.
كان معاوية رضي الله عنه يتوقع – فيما يبدو – تأنيباً من رسول الله صلى الله عليه وسلم على كلامه في الصلاة، الذي كان سبباً في تلك النظرات المستنكرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم..
فلما وجد ذلك الرفق من رسول الله صلى الله عليه وسلم، سكنت نفسه وطاب خاطره، فقال ما قال.
وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم أعرابياً يبول في المسجد، ونهى أصحابه رضي الله عنهم عن تأنيبه، ودعا بماء فأمر بصبه على موضع بوله..
كما في حديث أنس رضي الله عنه، قال:
"بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ جاء أعرابي، فقام يبول في المسجد..
فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مه، مه
"وفي رواية: فصاح به الناس"..
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تزرموه، دعوه ) فتركوه حتى بال..
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه، فقال له: ( إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن )..
أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم..
قال: فأمر رجلاً من القوم فجاء بدلو من ماء فشنه عليه". [البخاري (7/80) ومسلم (1/236ـ237)].
وروى أبو هريرة الحديث بلفظ:
أن أعرابياً دخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، فصلى ركعتين..
ثم قال: اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً..
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لقد تحجرت واسعاً )..
ثم لم يلبث أن بال في ناحية المسجد، فأسرع الناس إليه، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم..
وقال: ( إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين، صبوا عليه سجلاً من ماء ) أو قال: ( ذنوبا من ماء ). [أبو داود (1/263ـ265) والترمذي (1/275ـ277) وقال: هذا حديث حسن صحيح].
فلو أن علماء المجتمع الإسلامي وطلبتهم، بذلوا جهدهم في تعليم جهاله بهذا العطف والرفق، لأثروا بتعليمهم وأسلوبهم في الجهال، تأثيراً يجعلهم يستجيبون لتنفيذ أمر الله وهدايته، ويكفون عن ارتكاب ما يقلق المجتمع ويفقده الأمن والسلام.
موقع الروضة الإسلامي..
http://216.7.163.121/r.php?show=home…enu&sub0=start
ونتري المزيد من مشاركاتك المميزة والرائعة…
وجعله الله في ميزان حسناتك…
على الإشادة والمرور..