المبحث الثامن: العفو والسماحة ودفع السيئة بالحسنة..
للناس في تعامل بعضهم مع بعض ثلاث حالات:
الحالة الأولى:
التزام العدل، بحيث يأخذ كل منهم حقه كاملا، بلا زيادة ولا نقص، وهي مأمور بها أمر إيجاب، لمن عنده الحق إذا طلب صاحبه منه ذلك، ولم يتنازل عن شيء منه، وإذا لم يؤد ذلك كاملاً بل نقص منه شيئا يكون ظالما.
الحالة الثانية:
أن يأخذ بعضهم أكثر من حقه، بدون رضا صاحبه وهذا ظلم نهى الله تعالى عنه، والنصوص الواردة فيه من الكتاب والسنة كثيرة جداً.
الحالة الثالثة:
أن يتنازل بعضهم لبعض عن حقه برضا واختيار، وهذه الحالة هي حالة الإحسان، التي أمر الله بها مع العدل الذي هو الحالة الأولى، إلا أن الإحسان بهذا المعنى مأمور به أمر استحباب وليس أمر إيجاب، وهذا هو المراد بهذا المبحث.
ذكر بعضن الآيات الواردة في العفو والسماحة:
قال تعالى: (( وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ )). [الشورى: 39ـ43].
أثنى الله تعالى في هذه الآيات على من انتصر بعد ظلمه، أي بعد ظلم الظالم إياه، وقيد ذلك الانتصار الذي أثنى على صاحبه، بأن يكون متلبساً بالعدل: (( وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ))..
وذكر سبحانه أن المنتصر من ظالمه لا سبيل لظالمه عليه؛ لأنه أخذ حقه منه، وهذا هو العدل وهو يبين الحالة الأولى، أي حالة التزام العدل.
وذم سبحانه وتعالى الظالمين البغاة الذين يعتدون على حقوق غيرهم وتوعدهم بعذابه الأليم في الآخرة..
كما أباح لمن ظلمه أن يأخذ حقه (( إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ )) وهذا هو الظلم، وهو يبين الحالة الثانية.
وأثنى سبحانه وتعالى على من عفا وأصلح وغفر، فقال: (( فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ )) (( وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ )). وهذه تعني الحالة الثالثة..
وقد أورد بعض المفسرين إشكالاً في هذه الآيات من وجهين:
الوجه الأول:
أنه سبحانه ذكر قبل هذه الآيات ثناءه على من يغفر لغيره إذا ظلم: (( وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ )) [الشورى:37].
وفي هذه الآيات أثنى على المنتصرين بقوله: (( وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ )). وظاهره أن فيه تناقضاً.
الوجه الثاني:
أن النصوص الكثيرة دالة على أن العفو أفضل من الانتصار، وأجاب [يعني مورد الإشكال] بما حاصله: أن الانتصار ممدوح إذا كان الجاني جريئاً مصراً على ذنبه..
لأن في العفو عنه حينئذ إعانة له على الاستمرار في الذنب وإذلال المسلم، فلا بد من ردعه..
وأن العفو فيما عدا ذلك، كأن يصدر الذنب هفوة منه، ويكون في العفو عنه تسكين لفتنة الجاني وسبب لرجوعه عن ذنبه". [راجع التفسير الكبير للرازي (27/177) والجامع لأحكام القرآن (16/39)].
والظاهر أن الانتصار والعفو المذكورين في الآيات عامَّان في الناس كلهم:
المؤمنين منهم والكافرين، ما دام الحق الذي ينتصر له أو يعفى عن المعتدي فيه يتعلق بالشخص المعتدَى عليه ولم تنتهك فيه حرمات الله، وقد رجح هذا العموم *** جرير الطبري رحمه الله في تفسيره". [جامع البيان عن تأويل آي القرآن (25/37ـ41)].
وأمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالعفو عن أصحابه والاستغفار لهم..
كما قال تعالى: (( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ )). [آل عمران: 159].
وأثنى سبحانه على المتصفين بالعفو عن الناس وكظم الغيظ وجعل تلك الصفة من الصفات التي يستحقون بها مغفرة الله وعفوه ودخول جنته.
كما قال تعالى: (( وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ )) [آل عمران: 133ـ134].
وحذر سبحانه وتعالى من بعض الأزواج والأولاد الذين يدأبون على معصية الله سبحانه وتعالى، ويجتهدون في إيقاع أزواجهم وآبائهم في معصية الله..
بسبب قرابتهم والتصاقهم بهم والشفقة والمحبة الطبيعية التي يستغلونها، فصاروا بذلك أعداء، كغيرهم ممن ليسوا بأزواج ولا أولاد، بل إن عداوتهم أشد، من عداوة غيرهم من الأجانب..
ومع ذلك حث الله تعالى على العفو عنهم والصفح، ورتب على ذلك مغفرته ورحمته لمن عفا وصفح، جزاء وفاقاً، فالتحذير من طاعتهم في معصية الله، والعفو عما يبدر منهم من إساءة على الزوج والأب أو الأم.
قال تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )) [التغ***:14].
ومن الآيات القرآنية الكريمة التي أنزلها الله تعالى، لتسمو بالمؤمن إلى أعلى درجات العفو والتسامح، تلك الآية التي نزلت في شأن أبي بكر الصديق و*** خالته مسطح بن أثاثة، الذي شارك في حديث الإفك الباطل..
فقد كان مسطح من فقراء المهاجرين، وكان أبو بكر، رضي الله عنه ينفق عليه لقرابته منه، فلما وقع حديث الإفك، وعلم أن مسطحاً كان من المتورطين فيه، حلف أن لا ينفق عليه أبد الدهر لظلمه ل***ته ووقوعه في عرضها.
فأنزل الله تعالى في ذلك: (( وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ )) [النور:22، وراجع الجامع لأحكام القرآن (12/207ـ209) في تفسير الآية].