المبحث الرابع عشر: الإحسان إلى الجار..
لقد أوصى الله تعالى بالإحسان إلى الجار، كما أمر بالإحسان إلى الوالدين وذوي القربى واليتامى والمساكين..
فقال تعالى: (( وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً )). [النساء:36].
وفسَّرَ بعض العلماء الجار القريب بالمسلم، والجار الجنب باليهودي والنصراني وغيرهما. [الجامع لأحكام القرآن (5/183ـ184،188)].
ويشمل الإحسان إلى الجار، بذل الخير له مواساةً وعشرةً حسنة وتعليماً ونصراً وكف أذى وغيرها. [المرجع السابق (5/184)].
وكل دار قرب من دار المرء فأهله جيران له، وكلما كانت الدار أقرب، كان أهلها أكثر استحقاقاً لإحسانه من غيرهم، وذكر بعض العلماء أن حد الجيرة أربعون داراً من كل ناحية، ونقل عن آخرين أن من سمع النداء فهو جار. [المرجع السابق (5/185)].
وبتصور هذا الحد يظهر أن الجيرة تشمل مدناً بأسرها؛ لأن الذي لا يكون جاراً للمرء، يكون جاراً لجاره، وهكذا..
فإذا لم ينل المرء إحسان رجل لكونه ليس جاراً له، ربما ناله إحسانه على يد جار المحسن مادياً كان كالهدايا والهبات، أو معنوياً كالتعليم والقدوة الحسنة والأخلاق الحميدة، فإن الجار يؤثر في جاره، وهذا يؤثر في جيرانه وهكذا.
تصور لو أن كل مسلم وأسرته اجتهدوا في إيصال إحسانهم إلى أربعين داراً من جيرانهم من جميع الجهات المحيطة بدارهم، وهذا الإحسان كما تقدم يشمل الإحسان المادي والإحسان المعنوي، كيف سيكون حال المجتمع الإسلامي في تعاونه وتحابه وأمنه؟
وقد اهتم الرسول صلى الله عليه وسلم بحق الجار وحث عليه بأساليب متنوعة، ويجمعها أمران:
الأمر الأول: الحض على إكرامه بصفة عامة، ومواساته.
الأمر الثاني: التحذير من إيذائه.
فمن أمثلة الأمر الأول ما يأتي:
حديث عائشة و*** عمر رضي الله عنهم:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه ) [البخاري (7/78) ومسلم (4/2025)].
وحديث أبي شريح رضي الله عنه، قال:
سمعت أذناي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبصرت عيناي حين تكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخرة فليكرم جاره… ). [البخاري (7/79) ومسلم (1/69)].
ومن أمثلة أداء حقوقه ومواساته أن لا يبيع الجار داره لغير جاره إلا بإذنه..
كما روى عمرو بن الشريد، قال:
وقفت على سعد بن أبي وقاص، فجاء المسور بن مخرمة، فوضع يده على إحدى منكبي، إذ جاء أبو رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم..
فقال: يا سعد، ابتع مني بيتي في دارك..
فقال سعد: والله ما ابتاعهما..
فقال المسور: والله لتبتاعهما..
قال سعد: والله لا أزيدك على أربعة آلاف منجمة أو مقطعة..
قال أبو رافع: لقد أعطيت بهما خمسمائة دينار، ولولا أنى سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الجار أحق بسقبه) ما أعطيتكهما بأربعة آلاف، وأنا أعطي بهما خمسمائة دينار..
فأعطاها إياه ". [البخاري (3/47) والسقب: القرب، أي أحق بدار الجار القريبة منه].
وقد استدل بالحديث من رأى الشفعة للجار، وإن لم يكن شريكاً، والكلام في ذلك مفصل في كتب الفقه وشروح الحديث في الباب الخاص بالشفعة.
ومن ذلك إذن الجار لجاره أن ينتفع بجداره في ما لا يعود عليه بضرر، مثل غرز خشبة فيه وربط حبل أو إسناد حائط عليه..
كما في حديث أبي هريرة، رضي الله عنه:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره )..
ثم قال أبو هريرة: ما لي أراكم عنها معرضين؟! والله لأرمين بها بين أكتافكم". [البخاري (3/102) ومسلم (3/1203)].
ومن ذلك مواساة الجار وإهداؤه ما تيسر من طعام أو غيره، لما فيه من جلب المحبة والمودة..
كما روى أبو هريرة، رضي الله عنه:
عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ( يا نساء المسلمين لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة ). [البخاري (3/128ـ129) ومسلم (2/714) وفرسن الشاة ضفرها..].
وفي حديث أبي ذر رضي الله عنه، قال:
إن خليلي أوصاني ( إذا طبخت مرقاً فأكثر ماءه، ثم انظر أهل بيت من جيرانك، فأصبهم منها بمعروف ). [مسلم (4/2025)].
وسألت عائشة، رضي الله عنها، رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت:
قلت: يا رسول الله، إن لي جارين، فإلى أيهما أهدي؟ قال: ( إلى أقربهما منك باباً ) [البخاري (8/79)].
ونهى صلى الله عليه وسلم أن يبيت الرجل شبعاناً، وجاره جائع.
روى عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا يشبع الرجل دون جاره ). [أحمد (1/54ـ55)].
والذي يظهر من هذه الأحاديث وغيرها، أنه إذا استوى الجيران في الحاجة وعدمها قدم الجار الأقرب في الهدية والهبة ونحوها، إذا لم يكن عند الجار ما يسع الجميع..
أما إذا كان بعض الجيران مكتفياً والآخر ذا مخمصة، فإنه يقدم المحتاج على غيره، لحديث أبي ذر السابق: ( انظر أهل بيت من جيرانك فأصبهم.. ) وحديث عمر المذكور، وفيه النهي عن أن يشبع الجار دون جاره، والله أعلم.
ومن أمثلة الأمر الثاني – وهو التحذير من إيذاء الجار – ما يأتي:
حديث أبي شريح، رضي الله عنه:
أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ( والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن )..
قيل: ومن يا رسول الله؟
قال: ( من لا يأمن جاره بوائقه ).. [البخاري (7/78)].
والمراد بالبوائق: الغوائل والشرور والدواهي، وهي تشمل كل ضرر.
وفي حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره ). [البخاري (7/78ـ79)].
في هذين الحديثين النهى عن إيذاء الجار بصفة عامة.
وجعل صلى الله عليه وسلم من أكبر الذنوب الزنا بامرأة الجار..
كما روى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال:
قال رجل: يا رسول الله، أي الذنب أكبر عند الله؟
قال: ( أن تدعو لله ندا وهو خلقك )..
قال: ثم أي؟
قال: ( أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك )..
قال: ثم أي؟
قال: ( أن تزاني حليلة جارك )..
فأنزل الله عز وجل: (( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً )) [البخاري (5/140ـ148) ومسلم (1/90ـ91) والآية من سورة الفرقان:68].
ونصب صلى الله عليه وسلم ثناء الجيران على جارهم وذمهم له، مقياساً للإحسان والإساءة..
كما في حديث *** مسعود، رضي الله عنه، قال:
قال رجل: يا رسول الله، كيف لي أن أعلم إذا أحسنت أو إذا أسأت؟
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا سمعت جيرانك يقولون: أحسنت فقد أحسنت، وإذا سمعتهم يقولون: أسأت فقد أسأت ). [*** ماجة (2/1412) قال المحقق: " الزوائد": إسناد حديث عبد الله بن مسعود هذا صحيح، رجاله ثقات، ورواه *** حبان في صحيحه من طريق عبد الرزاق به"].
قد يقال: إن الرجل الصالح قد يجاور أهل السوء فلا يثنون عليه خيراً، لمفارقته لهم في تمسكه بدينه وأخلاقه وبعدهم عن ذلك..!
ولكن الواقع أن الرجل الصالح الذي يكون حسن الأخلاق في معاملته للناس، تجد الناس يذكرونه بالخير في معاملته، ولو كانوا فساقاً أو كفاراً وإن خالفوه في معتقده وسلوكه في الغالب..
ولكن بعض الناس قد يظهر بمظهر الرجل الصالح في عبادته وهو يسيء إلى الناس في معاملته، فيذكرونه بسوء، وقد يظن من لا خبرة له به، أن جيرانه يفترون عليه..
ولكنه إذا خالطه وجده فظاً غليظ القلب ظالماً في معاملته للناس، فلا يغتر بالظواهر وحدها حتى تضاف إليها المخابر، وقد يوجد في الناس من يهضم حقوق الناس، فلا عبرة به.
وذكر صلى الله عليه وسلم أن من علامات الساعة سوء المجاورة..
كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنهما:
أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: ( لا تقوم الساعة حتى يظهر الفحش والتفاحش وقطيعة الرحم، وسوء المجاورة ). [أحمد (2/162)].
وعنه – أيضا – عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( خير الأصحاب عند الله خيركم لصاحبه، وخير الجيران خيركم لجاره ). [أحمد (2/168)].
وبهذا يعلم أن أداء حقوق الجار والإحسان إليه ومواساته وكف الأذى عنه، من أعظم ما يحقق الأخوة الإسلامية بين المسلمين، ويؤلف بين قلوبهم، ويجعل بعضهم يأمن بعضاً.
موقع الروضة الإسلامي..
http://216.7.163.121/r.php?show=home…enu&sub0=start