ولا أزال في هذه الأحلام تنوء بي، فأتقلب من جنب إلى جنب، أحس كأن رأسي من الصداع بثقل أُحُد، حتى يصبح الله بالصباح، فأقيق مذعورا أخشى أن يسبقني الوقت، فلا أدري كم ركعت وكم سجدت، ولا كيف أكلت ولبست، وأهرول إلى المدرسة لا أستطيع التأخر ولو طحنتني الأوجاع، أو أحرقتني الحمّى، لأن المعلم لا يسمح له القانون أن يمرض في أيام المدرسة، وعنده أربعة أشهر ((عطلة الصيف)) يستطيع أن يمرض فيها، فإذا خالف ومرض، حرم الراتب ومنع العطاء (كان هذا قانون تلك الأيام)! أغدو إلى المدرسة، فأدخل على تلاميذ السنة الثالثة الأولية، وهؤلاء هم تلاميذي، لم يجدوني أهلا لأكبر منهم… فلا أنفك أقطع من عقلي لأكمل عقولهم، وأمزّق نفسي لأرقّع نفوسهم، ثم لا أفلح في تعليمهم ولا أنجح في تفهيمهم، ولا أدري من أين السبيل إلى مداركهم، فأنفق ساعة كاملة، أقلِّب أوجه القول، وأستقري عبارات اللغة، لأفهمهم كيف يكون (الاسم هو الكلمة التي تدل على معنى مستقل في الفهم وليس الزمن جزءا منه) فلا يفهمون من ذلك شيئا، ولا أقدر أن أطرح هذا التعريف السخيف أو أستبدل به، فأهذي ساعة ثم أقول: من فهم؟
فيرفع ولد أصبعه. فأحمد الله على أن واحد قد فهم، وأقول قم يا بني بارك الله فيك، فأخبرني عن معنى هذا التعريف. فيقول: يا أستاذ هذا داس قدمي. فأصيح به: ويحك أيها الخبيث! إني أسألك عن تعريف الاسم، فلماذا تضع فيه قدمك؟ ألم أقل لكم أن هذه الشكاوى ممنوعة أثناء الدرس؟ فيقول: ولماذا يدوس هو على رجلي!؟ فأصيح بالآخر: لم دست على رجله يا شيطان؟ فيقول: والله لد كذب، ما دست على رجله ولكن هو الذي عضُّني في أذني. فأغضب وأصرخ في وجهه: وكيف يعضّك وأنا قاعد هنا؟ فيقول: ليس الآن، ولكنه عضّني أمس. ويتطوع العفاريت الصغار للشهادة للمدعي والمدعى عليه، ويزلزل الفصل، فأضرب المنصة بالعصا، وأسكتهم جميعا مهددا من يتكلم بأقسى العقوبات، ولا أدري أنا ما أقسى العقوبات هذه؟… فيخنسون ويُبْلسون فأعود إلى الدرس فإذا هو قد طار من رؤوسهم، على أنه ما استقر فيها قط!
ويضرب الجرس، فتقوم قيامتهم، ويخرج الأولاد إلى الفرصة، ثم ترجع إلى درس القرآن. فأقول: من يحفظ سورة الفاتحة؟ فيتصايحون: أنا… أنا… أنا. سكوت! واحد فقط… اقرأ أنت. الحمد لله رب العالمين… إياك نعبِد. فأقول: إياك نعبُد. فيقول: نعبِد. ويحك: نَعْ بُ د. فيقول: نَعْ بِ د. انتبه يا بني: نَعْ بود. فيقولها. حسن. قل نعبُد. فيقول: نعبِد. فلا نزال في نعبُد ونعبِد حتى ينتهي الدرس. ولا يلفظونها إلا بال**ر لأنهم حفظوها من السنة الأولى خطأ.
* * * * * * * * *
ولا أزال في هذا البلاء بياض نهاري، ولا يأتي المساء وفيَّ بقية عقل، أو أثر من قوة، ثم لا أنا أرضيت الوزارة، ولا أنا نفعت أبناء المسلمين، ولا أنا انصرفت إلى مطالعاتي وكتاباتي.
وهذه مكتبتي لم أدخلها منذ أول العام الدراسي، وهذه مشروعات المقالات والبحوث التي أكتبها، وهذه مسوَّات الكتاب الجديد الذي أؤلفه مبثوثة في جوانب الغرفة، ضائعة مهملة. أفتلومني بعد، على أني لا أجوِّد في هذه الأيام؟
بقلم الشيخ : الطنطاوي
منقووووووووول#G#