بالأمس , كنت جالسا أمام جهاز الكومبيوتر الخاص بي , أتطلع الى ايميلاتي المرسلة من قبل الأصدقاء والمجموعات البريدية والمواقع
الطبية , وفي نفس الوقت كان الياهو ميسنجر مفتوحا عندي , ويدخل علي أحد الأصدقاء بين فترة وأخرى ليحييني ويسلم علي ونتجاذب
أطراف الحوار في مواضيع شتى , فهذا من مصر يناقشني فيما يخص مقولة ( السلام على من أتبع الهدى ) , وصديق عزيز من الكوت
يرسل لي بطاقة تهنئة بمناسبة حلول 2024 , وأب و***ه من أهالي البصرة الكرام يخبروني بما يجري من أحداث في مدينتهم البصرة ,
وآخر من الناصرية يحدثني عن تكريمه من قبل أحدى المنتديات المشترك بها , وصديقي وزميلي من اليوسفية أخذ يشرح لي عن أنظمة
الأنتي فايروس الجديدة وعما تقوله الفلكية ماغي فرح عن برجي ( الأسد ) فيما يخص السنة القادمة وما تحويه من أحداث . وقمت أنا
بدوري بارسال أوف لاين مسج الى صديق لي في المقدادية أعبر فيها عن قلقي في عدم دخوله الميسنجر طوال أكثر من 10 أيام مضت
وهو الذي أعتاد التواجد على النت يوميا تقريبا , فأنا أعرف أن منطقته هي ضمن المناطق الساخنة في محافظة ديالى . في ذات الوقت ,
كنت أتصفح رسائل الايميل الواصلة لي , تلك تتحدث عن مواقف مضحكة , وتلك عن أحداث سياسية ساخنة , وتلك عن أمور دينية ذات
أهمية لنا كمسلمين . وقد أظطررت الى الغاء الاشتراك في احدى المجاميع البريدية كون أغلب مواضيعها تتحدث عن أخبار سياسية ثانوية
غير ذات أهمية , أو عن فضائح أخلاقية تحدث في مختلف الدول العربية , أو عن أخبار الفنانين وغيرها من أمور ليس لها أول ولا آخر ,
مع العلم أنها من المفروض أن تكون مجموعة بريدية اسلامية بحتة !!؟ , وقد لفت انتباهي أن ثلاث من الرسائل كانت تتحدث عن موضوع
اسمه الصديق , من هو الصديق , وكيف يكون , وكيف لنا أن نختبر صدق صداقته . كم هي نعمة أن يمتلك الانسان ولو صديق حقيقي
واحد .
وأنا أتطلع الى رسائل الصداقة هذه , سرحت بمخيلتي الى هنا , الى أرض الواقع , ورحت أفكر من هو صديقي الحقيقي ؟ . الكثير ممن كنت
أرافقهم وأجالسهم وأتبادل الحديث معهم قد غادروا البلد وعلى الأغلب لن يعودوا ثانية , البعض الآخر منهم استشهدوا خلال هذه السنين الأربع
العجاف , وبقي القليل القليل , التقي بهم بين حين وآخر . هذا الحين ليس يوما أو أسبوعا أو شهرا , لا , انه قد يكون عبارة عن شهور عدة ,
فظروف البلد الزمت كل منا أن يتخذ بيته ملجأ يأويه ويؤمنه من مخاطر كثيرة عصفت بالعراق ولا زالت . لا أتذكر أني قد جالست أحد أصدقائي
لمدة أكثر من ثلاث سنين مضين , لم أزر أحدا في بيته , ولم يزرني أحدا منهم ايضا , لم نعد نلتقي في مكان عام كما كنا سابقا , وكل واحد فينا
يعذر الآخر , فالحرب لم تجهز فقط على الأخضر واليابس , لم تجهز فقط على الأرواح والممتلكات , لقد أجهزت حتى على رغبة التواصل فينا ,
الكل هنا يتملكه احساس الوحدة في داخله , رغم انه يعيش داخل مجتمع كبير ومتنوع .
أرجعت رأسي الى الخلف لآخذ راحتي على الكرسي , وبدأت أستذكر ماضي الأصدقاء , كم أحن الى تلك الجلسات والضحكات والعزومات , كم
أحن الى تلك النقاشات والى تلك المشاحنات التي قد تجري بيننا بين فترة وأخرى , فرغم كوننا أصدقاء ,لكن لكل واحد منا طبعه ومزاجه ووجهة
نظره الخاصة به .
رغم أني كونت صداقات مميزة مع كثير من الأخوة عبر الانترنت , لكنها في كل الأحوال تختلف عن أن يكون صديقي متواجدا معي هنا في السراء
والضراء , نأكل معا , نتمشى معا , قد لا يحتاج لأن يكلمني كي أعرف ما يدور في داخله , فممكن أن تكفيني نظرات عينيه لأعرف ما يجري في
ذهنه من انشغال او فرح أو حزن . تعودت من خلال عملي كطبيب أن أكلم الناس , هم يبثون لي شكواهم , أحزانهم , قلقهم وحتى أسرارهم
الخاصة , وأنا أستمع وأحلل وأبدي رأيي , وأحاول أن أخفف عنهم , فنحن بني البشر نحب أن نجد من يستمع لحديثنا , من يواسينا ساعة الحزن
ويأخذ بيدنا . الناس من كبار السن ومن البسطاء قد يجدون في طبيبهم ما يحمل هذه المواصفات , ولكن الى من يبث هذا الطبيب شكواه وآلامه ؟ .
أنا وكثير غيري من الناس نحتاج فعلا الى أصدقاء على درجة من التميز ليتشاركوا معنا متقلبات الحياة , أصدقاء يكونون كما المرآة , تظهر لنا القبيح كي نحاول تفاديه , وتظهر لنا الجميل الحسن من الامور لكي نداوم العمل به والتزامه .
عدت مرة أخرى الى أرض الواقع , وتذكرت من بقي من أصدقائي في بغداد , هم قليلون , تحملهم الهموم بعيدا عن محاولة الحصول على أي لحظة حلوة من لحظات الحياة , وكأن العالم قد رمى بكل أوزاره وهمومه ومشاكله الأيديولوجية الى أرض العراق , ليصاب أناسه بالتخمة من هذا الكم من الأحمال , فأي دافع يحذونا لأن نواصل حياتنا اليومية بسلاسة ويسر ؟
غفوت بعد صلاة الصبح , ولم يوقظني سوى صوت الجوال قادما لي برسالة , كان هذا صباح آخر يوم لسنة 2024 , أعتقدت أنها تهنئة بمناسبة السنة الجديدة القادمة , كانت الرسالة لأحد الأصدقاء الذين أفتقدهم , باعدت قساوة الحياة في بغداد بيننا , فلا نرى بعضنا سوى يوم في كل شهر أو شهرين . أخبرني في رسالته أن والدته قد توفيت الى رحمة الله تعالى …… , هو لايستطيع أن يتصل بي لأن منطقتهم واقعة ضمن المناطق التي من الصعب الحصول فيها على تغطية جيدة لشبكة الجوال لأسباب أمنية , وأنا , ………. , صديقه , عندما فكرت في كيفية الذهاب لتعزيته لم أجد من يشجعني على المضي الى تلك المنطقة ذات الأحداث الساخنة , فان ذهبت فعلا , فقد لا أحظى بفرصة العودة من جديد سالما . صديقي هذا هو عبارة عن كم من الأخلاق : حسن السيرة , نكران الذات , الايثار , نفس كريمة , وحب المساعدة . لا بد أنها أم كريمة ملؤها الطيب تلك التي أنجبت مثل هكذا *** . فكيف هو حالك الآن يا صديقي وأنت تودعها ؟ , وكيف هو حالي وأنا لا أستطيع أن آتي لأواسيك ؟ , وكيف سيكون للصداقة بعد هذا طعما اذا لم نقف مع بعضنا البعض جنبا الى جنب في وقت الشدة كما في الرخاء ؟ , هل تتكفل اعتذاراتي بسد حاجتك للمواساة ؟
أحمد الله أني قد حظيت بأصدقاء مميزين عبر شبكة النت , تتطور الصلة مع بعض منهم الى أكثر من الكلام والكتابة عبر الميسنجر , فهذا الحاج الكويتي ( أحلى ما فيه عفويته ) , وعبر معارفه في البصرة يبعث لي بماء زمزم وكتاب لمؤلف كويتي , و*** الكوت استضافني في بيته وأكرمني وذهبنا سوية الى ايران للزيارة والسياحة , وقضينا أياما جميلة هناك , ومن ايران أحضرت تذكارا خفيفا لأبعثه الى الحاج الكويتي , هو تذكار بسيط , لكني أحببت أن يكون هناك بين يديه ولو شيئا بسيطا يذكره بصديقه البغدادي , وأتوقع أن أجتمع أنا *** الكرخ بصديق وأخ عزيز علي يقطن الرصافة يوما ما لنتقاسم أنا واياه مشكلة محددة مشتركة , نتناقش عنها ونتحاور علنا نجد الحلول لها رغم أن مفاتيح حلها كثيرة !! , ولكنها تظل مشكلة لنا نحن الأثنين , وهناك صديقي الشاب المصري الطيب الذي يتصل بي عبر الجوال كلما وجدني غائبا عن الحضور في النت , يطمئن علي خوفا وشوقا , فما أطيبه وأحلاه من صديق , وأنا بانتظار حصتي من الرمان من مزرعة *** المقدادية حالما تتوفر لديه الظروف للمجيء الى بغداد , ولو أن زيارته لي ستكون أطيب وألذ وأشهى من الرمان . وغير هؤلاء عدد لا بأس به من الأصدقاء والأحبة الطيبين , أذكرهم جميعا في صلاة الليل داعيا لهم بالغفران والرحمة , وأرجو أن أكون لهم خير بلسم وخير صديق .
الهي غاب الكثير من الأحباب عني , فلا تحرمني من أصدقائي هؤلاء , وابعد عني وعنهم جميعا شر كل بلية برحمتك يا أرحم الراحمين .
أصدقائي
تقبلوا مني كل الحب والتقدير
طلال الامير