نخطئ كثيراً في مسمّياتنا الإعلامية و التي تصبح متداولة فيما بعد بين عامة الناس ، و من تلك المسميات ما أصبح يعرف بالجدار الآمن ، تسير في الشوارع ، تسمع تصريحات المسئولين ، كثير من هؤلاء يردّد الأسماء التي يسمّي بها الصهاينة الأشياء ، و هو ما يذكر بما قاله **ينجر عن طريقة تعامله مع الزعماء العرب ، إذ يذكر وزير الخارجية الأمريكي السابق هنري كيسنجر أن الإدارة الأمريكية حين كانت ترغب في تسويق مفاهيم معينة لدى العرب ترسل وزير خارجيتها في جولة مكوكية في العالم العربي و خلال حديثه مع الزعماء يبدأ بالحديث معهم بمصطلحات يطلقها أثناء حديثه بطريقة غير مباشرة ، ما يحدث هو أن هذه المصطلحات تبدأ بالتداول أياماً قليلة بعد الزيارة ، حيث يبدأ الزعماء بتكرارها في مؤتمراتهم الصحافية بوعي أو دون وعي في غالب الأحيان ، ثم تصبح متداولة بين الناس ، و هو ما حدث في قضية ما يسمّى الجدار الآمن ، و الذي يجب أن يعاد تسميته "بالسور الاستيطاني العنصري" .
أثارت قضية إنشاء سور يلفّ التجمّعات السكنية الفلسطينية في الضفة الغربية حساسية لدى الأوساط السياسية الصهيونية منذ أمد بعيد ، إذ ثار جدل واسع في أوساط الصهاينة حول ما إذا كان هذا الجدار سيشكّل حدوداً بين الكيان الفلسطيني و الدولة الصهيونية ، و ظلّت عقدة الحدود تؤرق المسئولين الصهاينة طيلة عقود سيما و أن الكيان الصهيوني ليس لديه ترسيم حدود دولي إلى الآن ، و مشروعه الاستعماري يتجاوز الأرض الفلسطينية ، و كان المطروح حينها سور يلفّ الضفة الغربية و هو ما يعني كياناً فلسطينياً داخل السور ضمن أراضي عام 67 .
و لكن مع تزايد الضغط الذي مارسته عمليات المقاومة على دولة الكيان لم تجد الحكومة الصهيونية بدّاً من عمل جدار يفصل المدن الفلسطينية من أجل إعاقة حركة المقاومين في التسلل ، و كان لزاماً على شارون أن يوفّ بين جدلية الأمن الصهيوني و جدلية الحدود في العقلية الصهيونية ، لذا ارتأى أن يبتلع السور معظم أراضي الضفة الغربية بشكلٍ يوفّق به بين جميع المنظورات الصهيونية ، فقد ابتلع السور بداخله التجمّعات الاستيطانية الرئيسية في الضفة سيما في القدس و نابلس و الخليل ، و أتى على كل غور الأردن و التفّ على أريحا التي أصبحت جزيرة بداخله ، و قسّم مدن الضفة إلى شمال الضفة و وسطها و جنوبها ، و أصبحت القدس خارج اللعبة ، و هو ما يتلاءم مع أكثر نظريات الحل السلمي الصهيوني تطرفاّ بفرض وقائع جغرافية على الأرض سيكون لها ما بعدها في قضايا الحل النهائي ..
لقد غدت إمكانية قيام أي كيان فلسطيني مستقل ضرباً من الخيال بفعل هذه الوقائع الجديدة على الأرض ، فقد ابتلع هذا السور من الأرض بضربة واحدة أكثر مما ابتلعه الزحف الاستيطاني طيلة العقود السابقة ، إذ إن كلمة إقامة مستوطنة جديدة و لو كانت مجرد كرفان تثير الكثير من الحساسية لدى المجتمع الدولي رغم أنه لا يحرّك ساكناً ، أما مصادرة نصف أراضي قلقيلية و 42 ألف دونم من أراضي جنين و عشرات آلاف الدونمات من باقي المحافظات إضافة إلى غور الأردن كاملاً تحت اسم أمني فلا يكشف بشكلٍ صارخ الوجه الاستيطاني لهذا الجدار ..
و لكن في المحصلة النهائية لا يمكن إلا قول (شكراً) لشارون لأنه قرّر أن يسلك الطريق المختصر ليعلنها صراحة و دون مراوغة أنه لا إمكانية لأيّ حل سياسي على الأرض ، و لتبقى الخدع تنهال على سياسيّي هذا الشعب إلى أن يتم بناء هذا الجدار ، إذ يمكن لشارون أن يطلق سراح 200 أسير لم يتبقَّ على محكومياتهم سوى القليل كلما أكمل السور حول محافظة من محافظات الضفة ، لينشغل العالم ببالونات الاختبار و الفقاعات الإعلامية التي يطلقها بين الفينة و الأخرى ، و التي يصفّق أول ما يصفق لها بعض سياسيّينا المهووسين بخارطة الطريق ليتم تسويقها فيما بعد عالمياً فيما الجرافات تلتهم الأرض.
لقد أتقن الصهاينة فن التلاعب بالكلمات و تعلّموا كيفية استغلال الآخر في كلّ زمان و مكان ليكون مطيّة لتحقيق مآربهم ، و لكن مفاوضنا الفلسطيني منذ 11 عاماً من التفاوض في العلن و 20 عاماً قبلها من التفاوض في السر لم يعرف إلى الآن كيف يمكنه أن يكوّن خمس كلمات ذات مغزى واضح في جملة وحدة ، لأنه لو أراد أن يتحدّث بكلمة واحدة ذات مغزى واضح لقال إنه لا يمكن لأيّ تسوية أن تتم في هذه الأرض ، فالصراع صراع وجود .
و تعتبر الحركة الصهيونية أن من الأخطاء التاريخية التي وقعت فيها الحركة منذ تأسيسها خمسة أخطاء منها عدم تهجير سكان فلسطين كاملة إبان عامي 1948 و 1967 ، و يقول المحلّلون السياسيون لقد فات أوان التهجير إلى خارج فلسطين إلى الأبد ، إذ لم يعد هناك أية إمكانية لحدوث تهجير خارج فلسطين ، إذ لا يوجد عامل واحد يمكن أن يساعد الصهاينة في ذلك ، و لكن ما يسعى إليه الصهاينة حالياً و هو جزء مهم من مخطّط ما يسمى السور الآمن هو عملية تهجير داخلي يمكن من خلالها إفراغ مناطق سكانية من سكانها الفلسطينيين لصالح تهجيرهم إلى مناطق أخرى داخل الضفة الغربية ، أي إعادة التشكيل الديمغرافي داخل الضفة الغربية بما يتلاءم مع الهجوم الاستيطاني القديم التخطيط الحديث التنفيذ .