إن علم الإنسان بأنه سيموت فقط، غير كاف في تربيته على فعل الخير واجتناب الشر، لأنه ما من أحد إلا يعلم أن الموت أمر حتم وأنه لا يخلد أحد في هذه الأرض، يستوي في ذلك المؤمن المطيع الكامل الإيمان، والكافر والفاسق، بل أن الكافر الذي لا يؤمن بالبعث واليوم الآخر وما فيه من جزاء، كلما ذكر الموت ازداد ضراوة وشراهة في التمتع بالشهوات، وازداد اعتداؤه على حقوق غيره، ما لم يردعه رادع مادي من العقاب، لأنه لا يرجو متعة بعد موته فيستعجل كل متعة ممكنة قبل الموت.
ولهذا تجد الإيمان بالله تعالى يقترن به الإيمان باليوم الآخر، وتجد الذين لا يؤمنون باليوم الآخر هم أكثر الناس عصياناً وتمرداً على الله ورسوله، وأكثر بعداً عن الاستجابة لداعي الخير.
والتذكير بالموت إنما ينفع المؤمن باليوم الآخر، ليزداد المطيع من الطاعة، ويتوب العاصي عن المعصية وينزجر، خشية مما هو مقدم عليه من الحساب والجزاء.
فالمؤمن باليوم الآخر حق الإيمان، ينافس فيما يرضي ربه، على ع** من لا يؤمن به. وقد أجمل الله سبحانه وتعالى رحلة الإنسان وأطوارها خاتماً لها بالبعث بعد الموت، فقال: )ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين، ثم جعلناه نطفة في قرار مكين، ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما ف**ونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين، ثم إنكم بعد ذلك لميتون، ثم إنكم يوم القيامة تبعثون( [المؤمنون: 12-16].
وقد آمن الناس، بل صدقوا بهذه الأطوار كلها، لأن ما أحرزوه من علم مادي مما علمهم الله إياه في هذه الحياة قد كشف لهم عن صدقها، ما عدا البعث فإنه لم يؤمن به إلا من هداه الله لدينهن فآمن بما أخبر الله به من الغيب الذي هو أول صفات المتقين في القرآن: )الم، ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين، الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما ر**ناهم ينفقون( [البقرة: 1-3].
وقد زودهم الله تعالى – مع إيمانهم المطلق بكل ما أخبر به من الغيب، ومنه البعث – بالحجج والبراهين الساطعة، على أن البعث حق لا مرية فيه، فاجتمع لهم الأمران، الأمر الأول: التصديق المطلق والتصديق الكامل بما أخبر الله معتبرين خبره هو الدليل الكافي، لأن أخباره كلها صدق، والأمر الثاني: العلم بالحجج العقلية المقنعة على صدق ما أخبر الله تعالى به.
أما غير المؤمنين بالله حقاً فمازال أكثرهم لا يؤمنون باليوم الآخر، الذي هو نهاية أطوار حياة الإنسان كلها، بسبب انهم لا يصدقون إلا بما أدخلوه تحت التجارب المادية فظهرت لهم نتائجه حسية، وما عدا ذلك من الغيب فلا شأن لهم به ..
وقد ذكّر تعالى بأهوال يوم القيامة وما يصاب فيه الناس من ذهول لشدته، فقال جل وعلا: )يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم، يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد( [الحج: 1-2].
أمر سبحانه بتقواه وأتبع ذلك بهذا الإنذار والتخويف من بأس يوم القيامة الذي هذا شأنه.
كما نبّه سبحانه الناس من الغفلة التي هم فيها والإعراض عن طاعته، باقتراب الحساب على ما يعملون من أعمال، فقال تعالى: )اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون، ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون، لاهية قلوبهم وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون( [الأنبياء: 1-3].
هذه طبيعة من لم يؤمن بالبعث والجزاء في اليوم الآخر، أو يؤمن به ولكنه غافل عنه، طبيعته الغفلة والإعراض وعدم التأثر بما يتلى عليه من آيات الله واللعب واللهو، وإنه إذا تأملت أحوال أكثر المسلمين اليوم – بله غيرهم – وجدت أنهم يتصفون بهذا الصفات بعيدين عن صفات من يؤمن باليوم الآخر ولا يغفل عنه. إنهم في غفلة عن الله وإعراض، قد طغى عليهم اللعب والهزل واللهو، فأخلدوا إلى الأرض، وناموا عن المجد فأذلّهم الله دلاً لا فكاك لهم منه إلا بالعودة إلى الله وتزكية أنفسهم بالعلم النافع والعمل الصالح.
وأنذر الله سبحانه وتعالى الناس بيوم القيامة والبعث والجزاء من وقت نفخ الصور إلى أن يدخل أهل الجنة وأهل النار النار، فقال تعالى: )ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون، وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون، ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون، وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين، قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين، وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين، وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين( [الزمر: 68-74].
إن المسلم الذي يربى على السعي في أسباب الأمن من هذا اليوم العظيم، هو الذي يتحقق به الأمن في الدنيا، وإن الذي لا يخاف هذا اليوم، ولا يسعى في أسباب الأمن من أهواله، لهو الجدير بالإخلال بالأمن في الدنيا، لأن الذي لا يخاف هذا اليوم العظيم، لا يتورع عن أي فعل تتوق له نفسه، مهما كانت فيه من الضرر على سواه.