المطلب العاشر : تعليمهم العلم النافع، وتربيتهم على العمل الصالح.
سبق في مباحث الفصل الأول، والفصل الثاني من الباب الأول، ما يغني عن إعادة مباحث العلم النافع والعمل الصالح، وهي صالحة لهذا المطلب، فليراجعها من أراد.
لكننا هنا نشير إلى بعض الخلال التي يجب الحرص عليها في تربية الأطفال، إضافة إلى ما مضى.
فمن ذلك تمرينه الدائم ومتابعته المستمرة على اختبار الجليس الصالح وملازمته، وبعده عن جليس السوء ومخالطته..
لما في صحبة الصالحين من قدوة حسنة تجعله يزداد حباً للخير وتعاطيه، ونفوراً عن إتيان الشر ومقاربته..
ولما في مجالسة أهل السوء من محبتهم وتقليدهم في شرهم وفسقهم، والعادة جارية على سرعة التأثر بأهل الشر أكثر من التأثر بأهل الخير، وبخاصة الأطفال، فإنهم سرعان ما يحاكون من هو أكثر منهم في الشر.
وقد بين الله سبحانه وتعالى شدة ندم من يجالسون أهل السوء ومخالطتهم ويسيرون في ركابهم، ويتركون مجالسة أهل الخير والسير في صراطهم المستقيم.
قال سبحانه وتعالى: (( وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً )) [الفرقان: 27- 29].
وذكر سبحانه وتعالى أن رؤساء الضلال والإضلال، يتبرأون يوم القيامة من أتباعهم، وأن أتباعهم يتمنون لو يعودون إلى الحياة الدنيا، فيتبرأون من رؤسائهم الذين أضلوهم، كما تبرأ رؤساؤهم منهم.
قال تعالى: (( إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ )) [البقرة: 166-167].
وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلاً، للجليس الصالح وجليس السوء، للحث على مجالسة الصالحين، والتحذير من مجالسة أهل الشر..
كما روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه:
أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( مثل الجليس الصالح والسوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحاً خبيثة ). [البخاري (6/231) ومسلم (4/2026)].
ومن ذلك العناية بتعليمهم قراءة القرآن الكريم، وتحفيظهم إياه كله إن كانوا قادرين على ذلك، وإلا فما تيسر منه، وترغيبهم في المداومة على قراءته وتدبره وحبه، وأنه كلام الله تعالى يجب امتثال أوامره واجتناب زواجره، والعمل بما فيه والإيمان بما أخبر به من الغيب في الماضي والمستقبل، وأن ما وافقه فهو حق، وما خالفه فهو باطل.
وكذلك يعنى بتعليمهم سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم وتحبيبها إليهم، وأن سنته صلى الله عليه وسلم كالقرآن، يجب الإيمان بما أخبرت به والعمل بما شرعته، وأن كل رأي خالفها فهو باطل، وأن الكتاب والسنة معصومان عن الزلل، بعيدان عن الزيغ والضلال.
وأن الأئمة المجتهدين قاموا بخدمة هذا الدين، علماً وعملاً ودعوة وتعليماً وجهاداً، وعلى رأسهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين يجب حبهم واحترامهم وبغض من أبغضهم، وأنه لا يبغض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أهل الزيغ والضلال.
وهكذا أتباع الصحابة من أئمة الإسلام الذين نصروا هذا الدين وحفظوه، بتعلمه وتعليمه، والدعوة إليه، والذب عن سنته، ونشرها صحيحة نقية من طعن الطاعنين وكذب المفترين، يجب حبهم وموالاتهم، والاستعانة بعلومهم ومؤلفاتهم، على فهم مراد الله ورسوله، وأن صوابهم يغمر ما قد يحصل منهم من خطأ قليل، وهم مثابون على كل حال: على الصواب لهم أجران، وعلى اجتهادهم الذي أخطأوا فيه أجر.
ومن أهم ما يجب أن يعنى به في تربية الأولاد:
تعويدهم على الصدق في القول، واجتناب الكذب، فإن الصدق يؤمن صاحبه، والكذب يلقي من اتصف به في المهالك، ولا يؤتمن على كبير أو حقير، وكيف يأمن الناس الكاذب وفيه خصلة من خصال النفاق؟!
ويجب أن يبين لهم مزايا الصدق وفضائله في الدنيا والآخرة، كما يبين لهم مضار الكذب كذلك في الدنيا والآخرة.
وقد روى عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه:
عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ( إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكون صديقاً، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً ) [البخاري (7/95) ومسلم (4/2012)].
وروى أبو هريرة، رضي الله عنه:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ( آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان ). [البخاري (7/95) ومسلم (1/78)].
ومن ذلك تمرينهم على أداء الشعائر التعبدية من صغرهم، حتى ينشأوا عليها ويعتادوها، فلا يكونون مقصرين فيها إذا بلغوا رشدهم، وأصبحوا مكلفين بالخطاب مباشرة يعاقبون على تركها.
فقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ولي الصبي أن يعلمه الصلاة لسبع، ويضربه عليها لعشر..
كما روى عبد الملك بن الربيع بن سبرة عن أبيه عن جده، قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( علموا الصبي الصلاة *** سبع سنين، واضربوه عليها *** عشر ). [الترمذي (2/259) وقال:… حديث حسن صحيح، وأبو داود (1/332ـ333) وقال المحشي عليه: "وفي المجموع النووي (3/10): حديث سبرة صحيح.."].
وقد رفعت امرأة صبياً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: ألهذا حج؟ قال: ( نعم، ولك أجر ). [مسلم (2/974) وراجع التمهيد ل*** عبد البر (1/94)].
وهكذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يمرنون أبناءهم على الصوم وهم صغار..
كما في حديث الربيع بنت معوذ بن عفراء، قالت:
"أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة: ( من كان أصبح صائماً فليتم صومه، ومن كان أصبح مفطراً، فليتم بقية يومه ).
فكنا بعد ذلك نصوم ونصوِّم صبياننا الصغار منهم إن شاء الله، ونذهب إلى المسجد، فنجعل لهم اللعبة من العهن، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناها إياه عند الإفطار"..
وفي رواية:
"ونضع لهم اللعبة من العهن فنذهب به معنا، فإذا سألونا الطعام أعطيناهم اللعبة تلهيهم حتى يتموا صومهم". [مسلم (2/798) والرواية الثانية تبين المعنى المراد من الأولى، أي أعطيناهم يلهون بها حتى يحين الإفطار].
ولا شك أن تنشئة الصبي بالتعليم والتربية الإيمانية والعبادية، تعده ليكون إنساناً صالحاً يقوم بحق الله وحق نفسه وحقوق أسرته وحقوق المجتمع كله..
وبذلك يأمنه الناس على أنفسهم ودمائهم وأموالهم وأعراضهم، لأن نشأته على طاعة الله وطاعة رسوله، وقيامه بالعبادات التي يقدر على أدائها من صغره تورثه التقوى، والتقوى هي سبيل الأمن.
ومن ذلك تدريبه خلال الكمال، كالإيثار، وأن يحب لغيره ما يحب لنفسه من الخير، وأن يعطي ولا يأخذ، وأن يستشعر مسؤوليته في تصرفاته، بحيث يجعله ذلك يقدم على ما ينفعه أو ينفع غيره، ويحجم عما يضره أو يضر غيره.
ولو أن الأسر اهتمت بتربية أبنائها وتعليمهم وتنشئتهم على طاعة الله وطاعة رسوله، مع الإخلاص والتجرد لله، لكان لأولاد المسلمين شأن في نشر الخير والطمأنينة بين البشر في مشارق الأرض ومغاربها، كما كان لأسلافهم في العصور المفضلة.