المطلب السابع : إظهار شكر الله على هبتهم بالذبح عنهم والاحتفاء بهم..
جرت عادة الناس أن يحتفوا بالضيف، وكلما كان أكرم عندهم وأحب إليهم، زادوا في إكرامه، وهي سنة قديمة، ظهرت في كرم إبراهيم عليه السلام حين قدَّم عجله المحنوذ السمين لضيفه.
كما قال تعالى: (( هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ )) [الذريات:24-27].
وقال تعالى: (( وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ )) [هود:69].
وجاء في نصوص كثيرة، الحث على إكرام الضيف، بل منها ما دل على وجوب الضيافة، وما زال الناس يثنون على الكريم المضياف.. [راجع كت***ا: الإسلام وضرورات الحياة، الفصل الخامس ـ المبحث السابع: المثال الخامس: حق الضيافة].
وإن هذا الطفل الذي مر برحلة طويلة في عالم الرحم، في ظلمات ثلاث لا يرى نور الشمس، ولا يرى أمه، وهو في بطنها، ولا يرى أحد من أسرته، وهم كذلك يعيش بينهم ويأكل من طعامهم، ويشرب من شرابهم، وهم لا يرونه، لمدة تسعة أشهر في الغالب وقد تزيد وقد تنقص.
إن مجيئه لينضم إلى الأسرة التي طال انتظارها له، لأحق بالإكرام من غيره من الضيف الزائر الذين قد ألفوا الحياة وألفتهم، لأنه جاء ليكثر سواد الأسرة ويكون لبنة في بنائها، يقويها ويتعاون معها على تحقيق أهدافها، التي من أهمها تكثير النسل الذي يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد حث الرسول صلى الله عليه وسلم على إكرام هذا الضيف، شكراً لله على قدومه..
كما في حديث سلمان بن عامر الضبي، رضي الله عنه، قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( مع الغلام عقيقة، فأهريقوا عنه دماً، وأميطوا عنه الأذى ). [البخاري (6/217) وأبو داود (3/261)، والترمذي (4/97ـ97)].
وعن يوسف بن ماهك:
أنهم دخلوا على حفصة بنت عبد الرحمن، فسألوها عن العقيقة؟ فأخبرتهم أن عائشة رضي الله عنها أخبرتها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم: ( عن الغلام شاتان متكافئتان وعن الجارية شاة ). [الترمذي (4/96ـ97) وقال: حديث عائشة حديث حسن صحيح].
وعن أم كرز الكعبية، رضي الله عنها قالت:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: ( عن الغلام شاتان، وعن الجارية شاة ). [أبو داود (3/257) والترمذي (4/98) وقال: هذا حديث حسن صحيح].
وعن سمرة، قال:
قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ( الغلام مرتهن بعقيقته، يذبح عنه يوم سابعه، ويسمى، ويحلق رأسه ). [الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، وأبو داود (3/259ـ260)].
وقد استدل بهذا الحديث من يرى وجوب الذبح عن الطفل.
قال *** القيم، رحمه الله:
"فالذبح عن الولد فيه معنى القربان والشكران والفداء والصدقة وإطعام الطعام، عند حوادث السرور العظام، شكراً لله وإظهاراً لنعمته التي هي غاية المقصود من النكاح، فإذا شرع الإطعام للنكاح الذي هو وسيلة إلى حصول هذه النعمة، فلأن يشرع عند الغاية المطلوبة، أولى وأحرى، وشرع بوصف الذبح المتضمن لما ذكرناه من الحكم.
فلا أحسن ولا أحلى في القلوب من مثل هذه الشريعة في المولود، وعلى نحو هذا جرت سنة الولائم في المناكح وغيرها، فإنها إظهار للفرح والسرور، بإقامة شرائع الإسلام، وخروج نسمة مسلمة يكاثر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمم يوم القيامة، تعبد الله ويراغم عدوه". [تحفة المودود في أحكام المولود ص40 وهو بيان لما ظهر له رحمه الله من حكمة الشارع في الأمر بالذبح عن الطفل].
المطلب الثامن : العناية بتنظيفهم وإزالة الأذى عنهم..
شرع أن يحلق رأس الطفل يوم سابعه، إيذاناً بالعناية به وإزالة ما يؤذيه، بل وشرع التصدق عنه بوزن شعر رأسه ذهباً أو فضة.. [راجع تحفة المودود ص57ـ59].
وكأن في ذلك إشارة إلى فدائه بالمال وعدم التفريط فيه، وأن شعر رأسه الذي يؤذيه بقاؤه فيحلقونه ليس رخيصاً عند أسرته، بل يوزن بالذهب الذي يحرص عليه الناس.
كما شرع ختانه، وهو من خصال الفطرة التي حث عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال *** القيم، رحمه الله – بعد أن ذكر نصوص خصال الفطرة:
"وقد اشتركت خصال الفطرة في الطهارة والنظافة وأخذ الفضلات المستقذرة، التي يألفها الشيطان ويجاورها من بني آدم، وله بالغرلة اتصال واختصاص". [تحفة المودود ص94].
وقال في موضع آخر – بعد أن بين أن الختان من محاسن الشرائع التي شرعها الله لعباده -:
"هذا مع ما في الختان من الطهارة والنظافة والتزيين، وتحسين الخلقة وتعديل الشهوة، التي إذا أفرطت ألحقت الإنسان بالحيوانات، وإن عدمت بالكلية ألحقته بالجمادات، فالختان يعدلها، ولهذا تجد الأقلف من الرجال، والقلفاء من النساء، لا يشبع من الجماع… ولايخفى على ذي الحس السليم قبح الغرلة، وما في إزالتها من التحسين والتنظيف والتزيين". [المرجع السابق ص111، والمراد بالغرلة: غلفة الذكر من الجلدة التي تغطي الحشفة].
وفي هذا إشارة إلى العناية بنظافة الصبي وإزالة كل الأقذار والفضلات المؤذية له، ما دام غير قادر على قيامه بإزالته بنفسه، وبهذا يأمن الطفل من الأوساخ وما ينتج عنها من أوبئة وأمراض قد تودي بحياته.
المطلب التاسع : وجوب إرضاعه وكفالته حتى يستغني بنفسه..
قال تعالى: (( وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلا وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ )) [البقرة:233].
لقد كان غذاء الطفل في رحم أمه يأتيه بلا اختيار منها ولا اختيار منه، عن طريق سرته التي ربط الله له بها حبلا يوصل إليه به ذلك الغذاء، وإذا كان على أمه حق له في فترة الحمل، فهو أن تتناول الغذاء المناسب ولا تهمل نفسها إهمالاً يؤدي إلى الإضرار به. كما أن على أبيه أن ينفق عليها نفقة تكفيها.
ولكنه عندما يتيسر سبيله، فيخرج من رحلة الرحم ليبدأ رحلة الأرض، ينقطع عنه ذلك الغذاء الاضطراري، ويجب على أبويه أن يقوما بإرضاعه: الأم ترضعه من لبنها الذي حوله الله إلى ثدييها، ليسهل على الطفل تناوله، والأب ينفق عليها ويكفيها بما تحتاج إليه، فإن فقد أبويه أو أحدهما، وجب ذلك على من يقوم مقامهما، إما من الأقارب، وإما من ولاة أمور المسلمين.
قال *** حزم، رحمه الله:
"والواجب على كل والدة، حرة كانت أو أمة، في عصمة زوج أو في ملك سيد، أو كانت خلواً منهما، لحق ولدها بالذي تولد من مائه أو لم يلحق، أن ترضع ولدها، أحبت أم كرهت، ولو أنها بنت الخليفة، وتجبر على ذلك، إلا أن تكون مطلقة.
فإن كانت مطلقة، لم تجبر على إرضاع ولدها من الذي طلقها، إلا أن تشاء هي، فلها ذلك، أحب أبوه أم كره، أحب الذي تزوجها بعده أم كره..
فإن تعاسرت هي وأبو الرضيع، أمر الوالد أن يسترضع لولده امرأة ولا بد، إلا أن لا يقبل الطفل غير ثديها، فتجبر حينئذ أحبت أم كرهت، أحب زوجها – إن كان لها – أم كره..
فإن مات أبو الرضيع أو أفلس، أو غاب بحيث لا يقدر عليه، أجبرت الأم على إرضاعه، إلا أن لا يكون لها لبن..
أو كان لها لبن يضر به، فإنه يسترضع له غيرها ويتبع الأب بذلك إن كان حياً وله مال". [المحلى (1/335) وما بعدها، وقد أطال في ذكر مذاهب الأئمة في وجوب رضاع الطفل على الأم، وبين أوجه استدلالهم، ورد ما خالف ما ذهب إليه..].
وتجب كفالة الطفل حتى يبلغ أشده ويقدر على القيام بمصالحه..
قال *** قدامة، رحمه الله:
"كفالة الطفل وحضانته واجبة، لأنه يهلك بتركه، فيجب حفظه عن الهلاك، كما يجب الإنفاق عليه وإنجاؤه من المهالك". [المغني (8/237)].